الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ }

هذه الجملة تتنزل من جملةإنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً } سورة يوسف 2 منزلة بدل الاشتمال لأنّ أحسن القصص ممّا يشتمل عليه إنزال القرآن. وكون القصص من عند الله يتنزّل منزلة الاشتمال من جملة تأكيد إنزاله من عند الله. وقوله { بما أوحينا إليك هذا القرآن } يتضمّن رابطاً بين جملة البدل والجملة المبدل منها. وافتتاح الجملة بضمير العظمة للتّنويه بالخبر، كما يقول كتّاب «الديوان» أمير المؤمنين يأمر بكذا. وتقديم الضمير على الخبر الفعليّ يفيد الاختصاص، أي نحن نقصّ لا غيرُنا، ردّاً على من يطعن من المشركين في القرآن بقولهمإنّما يعلمه بشرٌ } سورة النحل 103 وقولهمأساطير الأولين اكتتبها } سورة الفرقان 5 وقولهم يُعلمه رجل من أهل اليمامة اسمه الرّحمان. وقول النضر بن الحارث المتقدّم ديباجة تفسير هذه السورة. وفي هذا الاختصاص توافُق بين جملة البدل والجملة المبدل منها في تأكيد كون القرآن من عند الله المفاد بقولهإنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً } سورة يوسف 2. ومعنى { نَقُصُّ } نخبر الأخبار السّالفة. وهو منقول من قَصّ الأثر إذا تتبّع مواقع الأقدام ليتعرّف منتهى سير صاحبها. ومصدره القصّ بالإدغام، والقصص بالفكّ. قال تعالىفارتدّا على آثارهما قصصاً } سورة الكهف 64. وذلك أنّ حكاية أخبار الماضين تشبه اتّبَاعَ خطاهم، ألاَ ترى أنّهم سمّوا الأعمال سِيرة وهي في الأصل هيئة السّير، وقالوا سار فلان سِيرة فلان، أي فعل مثل فعله، وقد فرّقوا بين هذا الإطلاق المجازي وبين قصّ الأثر فخصّوا المجازي بالصّدر المفكّك وغلبوا المصدر المدغم على المعنى الحقيقيّ مع بقاء المصدر المفكك أيضاً كما في قوله { فارتدّا على آثارهما قَصصاً }. فـــ { أحسن القصص } هنا إمّا مفعول مطلق مبيّن لنوع فعله، وإمّا أن يكون القصص بمعنى المفعول من إطلاق المصدر وإرادة المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق، وهو إطلاق للقصص شائع أيضاً. قال تعالىلقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب } سورة يوسف 111. وقد يكون وزن فَعْل بمعنى المفعول كالنّبأ والخبر بمعنى المنبّأ به والمخبّر به، ومثله الحَسب والنقَض. وجعل هذا القَصص أحسن القصص لأنّ بعض القصص لا يخلو عن حسن ترتاح له النفوس. وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه وإعجاز أسلوبه وبما يتضمّنه من العبر والحكم، فكلّ قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه، وكلّ قصة في القرآن هي أحسن من كلّ ما يقصّه القاصّ في غير القرآن. وليس المراد أحسن قصص القرآن حتى تكون قصّة يوسف عليه السّلام أحسن من بقيّة قصص القرآن كما دلّ عليه قوله { بما أوحينا إليك هذا القرآن }. والباء في { بما أوحينا إليك } للسببيّة متعلّقة بـــ { نقُصُّ } ، فإنّ القصص الوارد في القرآن كان أحسن لأنّه وارد من العليم الحكيم، فهو يوحي ما يعلم أنّه أحسن نفعاً للسّامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح وابتهاج النفس والذّوق ممّا لا تأتي بمثله عقول البشر.

السابقالتالي
2