الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }

{ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ }. استئناف بياني نَاشىء عن قولهفمنكم كافر ومنكم مؤمن } التغابن 2 يبيِّن أن انقسامهم إلى قسمي الكافرين والمؤمنين نشأ عن حياد فريق من الناس عن الحق الذي أقيم عليه خلق السماوات والأرض لأن الحق أن يؤمن الناس بوجود خالقهم، وبأنه واحد وأن يفردوه بالعبادة فذلك الذي أراده الله من خلقهم، قال تعالىوما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } الذاريات 56. وقالفأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } الروم 30 فمن حَاد عن الإِيمان ومالَ إلى الكفر فقد حاد عن الحق والفطرة. { بِٱلْحَقِّ }. وقوله { بالحق } معترض بين جملة { خلق السمٰوات والأرض } وجملة { وصوّركم }. وفي قوله { بالحق } إيماء إلى إثبات البعث والجزاء لأن قوله بالحق متعلق بفعل { خلق } تعلَّق الملابسة المفاد بالباء، أي خلقاً ملابساً للحق، والحق ضد الباطل، ألا ترى إلى قوله تعالىإن في خلق السماوات والأرض } آل عمران 190 إلى قولهربنا ما خلقت هذا باطلاً } آل عمران 191. والباطل مَصْدَقهُ هنالك هو العبث لقوله تعالىوما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } الدخان 38، 39 فتعين أن مَصْدَقَ الحقّ في قوله { خلق السمٰوات والأرض بالحق } أنه ضد العبث والإِهمال. والمراد بـ { خلق السمٰوات والأرض } خلق ذوَاتهن وخلق ما فيهن من المخلوقات كما أنبأ عنه قوله { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } ، أي ما خلقناهما وما بينهما إلا بالحقّ، فكذلك يكون التقدير في الآية من هذه السورة. وملابسة الحق لخلق السماوات والأرض يلزم أن تكون ملابسة عامة مطردة لأنه لو اختلت ملابسة حال من أحوال مخلوقات السماوات للحق لكان ناقضاً لمعنى ملابسة خلقِها للحقّ، فكان نفي البعث للجزاء على أعمال المخلوقات موجباً اختلال تلك الملابسة في بعض الأحوال. وتخلّف الجزاء عن الأعمال في الدنيا مشاهد إذ كثيراً ما نرى الصالحين في كرب ونرى أهل الفساد في نعمة، فلو كانت هذه الحياة الدنيا قصارى حياة المكلفين لكان كثيرٌ من أهل الصلاح غيرَ لاقٍ جزاءً على صلاحه. وانقلب أكثر أهل الفساد متمتعاً بإرضاء خباثة نفسه ونوال مشتهياته، فكان خلق كلا هذين الفريقين غيرَ ملابس للحق، بالمعنى المراد. ولزيادة الإِيقاظ لهذا الإِيمان عطف عليه قوله { وإليه المصير } وكل ذلك توطئة إلى ما سبقه من قوله تعالىزعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } التغابن 7 الآية. وفي قوله { بالحق } رمز إلى الجزاء وهو وعيد ووعد. وفي قوله { خلق السمٰوات } إلى آخره إظهار أيضاً لعظمة الله في ملكوته. { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ }. إدماج امتنان على الناس بأنهم مع ما خلقوا عليه من ملابسة الحق على وجه الإِجمال وذلك من الكمال وهو ما اقتضته الحكمة الإِلٰهية فقد خُلقوا في أحسن تقويم إذ كانت صورة الإِنسان مستوفية الحسن متماثلة فيه لا يعتورها من فظاعة بعض أجزائها ونقصان الانتفاع بها ما يُناكد محاسن سائرها بخلاف محَاسن أحاسن الحيوان من الدواب والطيرِ والحيتان من مَشي على أرْبَع مع انتكاس الرأس غالباً، أو زحف، أو نقز في المشي في البعض.

السابقالتالي
2