الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }

بيان لجملةلتنذر به } الأعراف 2 بقرينة تذييلها بقوله قليلاً ما تذكرون. فالخطاب موجّه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى، فبعد أن نوّه الله بالكتاب المنزّل إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم وبيّن أن حكمة إنزاله للإنذار والذّكرى، أمر النّاس أن يتّبعوا ما أنزل إليهم، كلٌ يتبع ما هو به أعلق، والمشركون أنزل إليهم الزّجر عن الشّرك والاحتجاج على ضلالهم، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنّهي والتّكليف، فكلٌ مأمور باتّباع ما أنزل إليه، والمقصود الأجْدَر هم المشركون تعريضاً بأنّهم كفروا بنعمة ربّهم، فوصْفُ الرب هنا دون اسم الجلالة للتّذكير بوجوب اتّباع أمره، لأنّ وصف الربوبيّة يقتضي الامتثال لأوامره، ونهاهم عن اتّباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه، والموجه إليهم النّهي هم المشركون بقرينة قوله { قليلاً ما تذكرون }. والاتِّباع حقيقته المشي وراء ماششٍ، فمعناه يقتضي ذاتين تابعاً ومتوبعاً، يقال اتَّبع وتَبِع، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحوما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري } طه 92، 93 وهو استعارة تمثيليّة مبنيّة على تشبيه حالتين، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قَوْل نحوولا تَتّبعوا خطوات الشيطان } البقرة 168 وهو استعارة مصرّحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالىإن أتَّبِع إلاّ مَا يُوحى إليّ } الأنعام 50، ومنه قوله هنا { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم }. والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقولهكتاب أنزل إليك } الأعراف 2. وقوله { ولا تتبعوا من دونه أولياء } تصريح بما تضمّنه { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } لأنّ فيما أنزل إليهم من ربّهم أنّ الله إلهٌ واحد لا شريك له، وأنّه الولي، وأنّ الذين اتَّخذوا من دونه أولياء اللَّهُ حفيظ عليهم، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلَهم، وغيرَ ذلك من آي القرآن والمقصود من هذا النّهي تأكيد مقتضى الأمر باتّباع ما أنزل إليهم اهتماماً بهذا الجانب ممّا أنزل إليهم، وتسجيلاً على المشركين، وقطعاً لمعاذيرهم أن يقولوا إنّنا اتَّبعنا ما أنزل إلينا، وما نرى أولياءنا إلاّ شفعاءَ لنا عند الله فما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى، فإنّهم كانوا يموهون بمثل ذلك، ألا ترى أنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم «لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك» فموقع قوله { اتبعوا ما أنزل إليكم } موقع الفَصل الجامع من الحد، وموقع { ولا تتبعوا } موقع الفصل المانع في الحَدّ. والأولياء جمع ولي، وهو المُوالي، أي الملازم والمعاون، فيطلق على النّاصر، والحليف، والصاحب الصّادق المودّة، واستعير هنا للمعبود وللإله لأنّ العبادة أقوى أحوال الموالاة، قال تعالىأم اتّخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي } الشورى 9 وقد تقدّم عند قوله تعالىقل أغير الله أتّخذ ولياً } في سورة الأنعام 14، وهذا هو المراد هنا. والاتّباع في قوله { ولا تتبعوا من دونه أولياء } يجوز أن يكون مستعملاً في المعنى الذي استعمل فيه الاتّباع في قوله { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } وذلك على تقدير لا تتّبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الدّيانة الضّالة إلى الآلهة الباطلة، أو إلى سدنة الآلهة وكُهّانها، كما تقدّم عند قوله تعالى

السابقالتالي
2 3