الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }

فيه سبع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } وصل تعالى بذكر السّتر ما يتعلّق به من أمر النظر يقال: غضّ بصره يَغُضّه غضًّا قال الشاعر:
فغُضّ الطَّرْف إنك من نُمَيرٍ   فلا كَعْباً بلَغْتَ ولا كِلاباً
وقال عَنْتَرة:
وأغض طرفي ما بدت لِيَ جارتِي   حتى يُوارِي جارتِي مأواهَا
ولم يذكر الله تعالى ما يُغَض البصر عنه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد منه المحرّم دون المحلّل. وفي البخاري: «وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن؟ قال: اصرف بصرك يقول الله تعالى: { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } وقال قتادة: عما لا يحلّ لهم { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } خائنة الأعْيُن [من] النظر إلى ما نُهِيَ عنه». الثانية: قوله تعالى: { مِنْ أَبْصَارِهِمْ } «من» زائدة كقوله:فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 74]. وقيل: «من» للتبعيض لأن من النظر ما يباح. وقيل: الغض النقصان يقال: غض فلان من فلان أي وضع منه فالبصر إذا لم يمكَّن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص. فـ«ـمِن» من صلة للغض، وليست للتبعيض ولا للزيادة. الثالثة: البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعْمَرُ طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته. ووجب التحذير منه، وغضُّه واجب عن جميع المحرّمات وكلّ ما يخشى الفتنة من أجله وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والجلوسَ على الطُّرُقات» فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدّث فيها. فقال: «فإذا أبَيْتُم إلا المجلس فأعطُوا الطريقَ حقّه» قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: «غَضُّ البصر وكفّ الأذى وردُّ السلام والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر " رواه أبو سعيد الخُدْريّ، خرّجه البخاريّ ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم لعليّ: " لا تُتبع النظرة النظرة فإنما لك الأُولى وليست لك الثانية " وروى الأوزاعِيّ قال: حدّثني هارون بن رِئاب أن غَزْوان وأبا موسى الأشعريّ كانا في بعض مَغازِيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غَزْوان، فرفع يده فلطم عينه حتى نَفَرَت، فقال: إنك للحّاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك فلقِيَ أبا موسى فسأله فقال: ظلمتَ عينك، فاستغفر الله وتُب، فإن لها أوّل نظرة وعليها ما كان بعد ذلك. قال الأوزاعي: وكان غَزْوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفُجَاءة فأمرني أن أصرف بصري. وهذا يقوّي قول من يقول: إن «من» للتبعيض لأن النظرة الأولى لا تُمْلَك فلا تدخل تحت خطاب تكليف، إذ وقوعها لا يتأتّى أن يكون مقصوداً، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفاً بها فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج لأنها تُمْلك.

السابقالتالي
2 3