الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ }

{ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ } أي: خزنتها { إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } أي: وهم أقوى الخلق بأساً، وأشدهم غضباً لله، ليباينوا جنس المعذبين، فلا يستروحون لهم. { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي: من مشركي قريش. أي: إلا عدة من شأنها أن يفتتن بها الكافرون، فيجعلوها موضع البحث والهزء.

قال الجبائي: المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوي هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء.

وقال الكعبي: المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الخالق سبحانه. قال: وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به.

{ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ } أي: رسالة النبي صلوات الله عليه لإنبائه من وعيد الجاحدين المفسدين ما لديهم مصداقه. واللام متعلقة بـ { جَعَلْنَا } الثانية.

فإن قيل: كيف يصح جعلهم في نفس الأمر على هذا العدد، معللاً باستيقان أهل الكتاب، وازدياد المؤمنين، واستبعاد أهل الشك والنفاق، وليس إيجادهم تسعة عشر سبباً لشيء من ذلك، وإنما السبب لما ذكر، هو الإخبار عن عددهم بأنه تسعة عشر؟

والجواب: أن الجعل يطلق على معنيين:

أحدهما: جعل الشيء متصفاً بصفة في نفس الأمر.

وثانيها: الإخبار باتصافه بها، ويقال له: الجعل بالقول. أي: وما جعلنا عدتهم بالإخبار عنها إلا عدداً يقتضي فتنتهم، لاستيقان أهل الكتاب... إلخ. أي: وقلنا ذلك وأخبرنا به لاستيقان... إلخ. وعبر عن الإخبار بالجعل، لمشاكلة قوله: { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ... } إلخ - هذا ما قرره شراح القاضي.

{ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً } أي: تصديقاً إلى تصديقهم بالله ورسوله. { وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } أي: حتى يخوفنا بهؤلاء التسعة عشر.

قال الزمخشري: فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟

قلت: معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة، والكافرون بمكة، ماذا أراد الله بهذا مثلاً. وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون، كسائر الإخبارات بالغيوب. وذلك لا يخالف كون السورة مكية. ويجوز أن يراد بالمرض الشك والارتياب، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين، وبعضهم قاطعين بالكذب. انتهى.

وقال الرازي: إن قيل: لم سموه مثلاً؟

فالجواب: أنه لما كان هذا عدداً عجيباً، ظن القوم أنه ربما لم يكن مراد الله منه ما أشعر به ظاهره، بل جعله مثلاً لشيء آخر، وتنبيهاً على مقصود آخر، لا جرم سموه مثلاً.

{ كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ } أي: إضلاله لصرفه اختياره إلى جانب الضلال: عند مشاهدته آيات الله الناطقة بالحق.

السابقالتالي
2