الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ } بيّن أنهم حَرّموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرّمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه. وقيل: جميع الثياب كما روي عن عمر: إذا وسّع الله عليكم فأوسعوا. وقد تقدّم. وروي عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب شيخِ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خَزٍّ بخمسين ديناراً، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدّق به، أو باعه فتصدّق بثمنه، وكان يلبَس في الصيف ثوبين من مَتاع مِصر مُمَشَّقَيْن ويقول: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ }. الثانية: وإذا كان هذا فقد دلّت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمُّل بها في الجُمَع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالِية: كان المسلمون إذا تزاوَروا تجمّلوا. وفي صحيح مسلم " من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حُلَّةَ سِيَرَاءَ تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدِموا عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة» " فما أنكر عليه ذكر التجمّل، وإنما أنكر عليه كونها سِيَرَاءَ. وقد اشترى تميم الدّارِي حُلَّة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دِينار يلبس الثياب العدَنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثِر لباس الخشن من الكتّان والصوف من الثياب. ويقول: «وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ» هيهاتٰ أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا واللهٰ بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنُّهَى، وغيرهم أهل دَعْوَى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شَوْذَب: شهدت الحسن وأتاه فَرْقَد، فأخذه الحسن بكسائه فمدّه إليه وقال: يا فُرَيْقَد، يٱبن أمّ فريقد، إن البِرّ ليس في هذا الكساء، إنما البِرّ ما وَقَرَ في الصدر وصدّقه العمل. ودخل أبو محمد ٱبن أخي معروف الكرخِيّ على أبي الحسن بن يَسَار وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوّفت قلبك أو جسمك؟ صوّف قلبك وٱلبس القُوهِيّ على القُوهِيّ وقال رجل للشّبْليّ: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقّعات والفُوَط، فأنشأ يقول:
أمّا الخيام فإنها كخيامهم   وأرى نساء الحيّ غير نسائه
قال أبو الفرج بن الجوزِي رحمه الله: وأنا أكره لبس الفُوَط والمرقّعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ٱدعاء الفقر، وقد أمِر الإنسان أن يظهر أثر نِعَم الله عليه.

السابقالتالي
2 3 4