الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ }

والشمس آية نهارية والقمر آية ليلية، والماء الذي نشربه له علاقة بالشمس والتي تُبخِّره من مياه البحار ونروي به أيضاً الأرض التي تنتج لنا الثمار أما البحار فحساب كُلِّ ما يجري فيها يتم حسب التقويم القمري. وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم كل ذلك وهو النبي الأمي؟ طبعاً لم يكن ليعلم، بل أنزل الحق سبحانه عليه القرآن يضمُّ حقائق الكون كلها. وقول الحق سبحانه عن الشمس والقمر " دائبين " من الدَّأب، والدُّؤوب هو مرور الشيء في عمل رتيب، ونقول " فلان دَءُوب على المذاكرة " أي: أنه يبذل جَهْداً مُنظّماً رتيباً لتحصيل مواده الدراسية، ولا يبُدد وقته. وكذلك الشمس والقمر اللذان أقام الحق سبحانه لهما نظاماً دقيقاً. وعلى سبيل المثال نحن نحسب اليوم بأوله من الليل ثم النهار ونقسم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة ولذلك قال الحق سبحانه:ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [الرحمن: 5]. وقال أيضاً:وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً.. } [الأنعام: 96]. أي: أنك أيها الإنسان ستجعل من ظهور واختفاء أيٍّ منهما حساباً. وقد جعلهما الحق سبحانه على دقة في الحركة تُيسِّر علينا أن نحسبَ بهما الزمن، فلا اصطدامَ بينهما، ولكلِّ منهما فَلَك خاص وحركة محسوبة بدقة فلا يصطدمان. ولا يُشْبِهان بطبيعة الحال الساعات التي نستخدمها وتحتاج إلى ضبط. وكلما ارتقينا في صناعة نجد اختراعاتنا فيها تُقرِّبنا من عُمْق الإيمان بالخالق الأعلى. وفي نفس الآية يقول الحق سبحانه: { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } [إبراهيم: 33]. وبما أن الشمس آية نهارية والقمر آية ليلية، والنهار يسبق الليل في الوجود بالنسبة لنا. كان مُقْتضى الكلام أن يقول: سخر لكم النهار والليل. ولكن الحق سبحانه أراد أن يُعلمنا أن القمر وهو الآية الليلية ويسطع في الليل والليل مخلوق للسكون لكن هذا السكون ليس سبباً لوجود الإنسان على الأرض بل السبب هو أن يتحرك الإنسان ويستعمر الأرض ويكِدّ ويكدح فيها. لذلك جعل استهلال الشمس أولاً والقمر يستمد ضَوْءَه منها ثم جاء بخبر الليل وخبر النهار، فكأن الله قد اكتنفَ هذه الآية بنوريْن. النور الأول: من الشمس. والنور الثاني: من القمر، كي يعلَم الإنسانُ أن حياته مُغلفة تغليفاً يتيح له الحركة على الأرض، فلا تظننّ أيها الإنسانُ أن الأصل هو النوم! ذلك أنه سبحانه قد خلق النوم لترتاح ثم تصحو لتكدح. ونلحظ أن كلمة " التسخير " تأتي للأشياء الجوهرية، وتأتي للمُسخَّرات أيضاً، فالحيوان مُسخَّر لنا، وكذلك النبات والسماء مُسخَّرة بما فيها لنا، أما الليل والنهار فهما نتيجتان لجواهر هما الشمس والقمر والليل والنهار مُسبَّبان عن شيئين مُباشرين هما: الشمس والقمر. والتسخير - كما نعلم - هو منع الاختيار. وإذا ما سَخَّر الحق سبحانه شيئاً فلنعلم أنه مُنضبط ولا يتأتّى فيه اختلال، ولكن الكائن غير المُسخّر هو الذي يتأتى فيه الاختلال ذلك أنه قد يسير على جَادَّة الصواب، أو قد يُخطيء.

السابقالتالي
2 3