الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }

بيان قد عرفت أنَّ قوله تعالى { وما كنتم تكتمون } ، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوماً، ولا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله أبى واستكبر وكان من الكافرين حيث لم يعبّر أبي واستكبر وكفر، وعرفت أيضاً أن قصه السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى { إني أعلم ما لا تعلمون } ، وقوله { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } ، فقوله تعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة، فإن هذه الآيات كما عرفت إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الإِنسان وموقعه وكيفية نزوله إلى الدنيا وما يؤول إليه أمره من سعادة وشقاء، فلا يهمّ من قصة السجدة ها هُنا إلاَّ إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة وهبوط آدم هذا، فهذا هو الوجه في الإِضراب عن الاطناب إلى الإِيجاز، ولعلَّ هذا هو السر أيضاً في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا } ، بعد قوله { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل }. وعلى ما مرّ فنسبة الكتمان إلى الملائكة وهو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميز منهم، ويمكن أن يكون له وجه آخر، وهو أن يكون ظاهر قوله تعالى { إني جاعلٌ في الأرض خليفة } ، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده أيضاً أمرهم ثانيا بالسجود، ويوجب ذلك خطوراً في قلوب الملائكة، حيث أنها ما كانت تظن أنَّ موجوداً أرضياً يمكن أن يسود على كل شيء حتى عليهم، ويدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي. وقوله تعالى { اسجدوا لآدم } ، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحيَّة وتكرمة للغير وفيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، ونظيره قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلامورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربِّي حقاً } يوسف 100، وملخص القول في ذلك أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك، فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوّية المولى، أو عبدية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد، والمشي خلفه حينما يمشي وغير ذلك، وكلما زادت الصلاحية المزبورة ازدادت العبادة تعيّناً للعبودية، وأوضح الأفعال في الدلالة على عز المولوية وذل العبودية السجدة، لما فيها من الخرور على الأرض، ووضع الجبهة عليها، وأما ما ربما ظنه بعض من أن السجدة عبادة ذاتية، فليس بشيء، فإن الذاتي لا يختلف ولا يتخلف.

السابقالتالي
2 3