الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }

فيه أربع مسائل: الأُولى ـ قوله تعالى: { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } «يوم» ظرف، والتقدير يعذبون يوم يُحْمَى. ولا يصح أن يكون على تقدير: فبشّرهم يوم يحمى عليها لأن البشارة لا تكون حينئذ. يقال: أحميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها. ويقال: أحميته ولا يقال: أحميت عليه. وهٰهنا قال عليها لأنه جعل «على» من صلة معنى الإحماء، ومعنى الإحماء الإيقاد. أي يوقد عليها فتكوى. الكيّ: إلصاق الحارّ من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد. والجباه جمع الجبهة، وهو مستوى ما بين الحاجب إلى الناصية. وجبَهت فلاناً بكذا أي استقبلته به وضربت جبهته. والجنُوب جمع الجنب. والكيّ في الوجه أشهر وأشنع، وفي الجنب والظهر آلم وأوجع فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء. وقال علماء الصوفية: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طوَوْا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كُوِيت جنوبهم، ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقةً بها واعتماداً عليها كُوِيت ظهورهم. وقال علماء الظاهر: إنما خصّ هذه الأعضاء لأن الغنيّ إذا رأى الفقير زوى ما بين عينيه وقبض وجهه. كما قال:
يَزِيد يَغُضّ الطرف عني كأنما   زوى بين عينيه عليّ المحاجِمُ
فلا ينبسطْ من بين عينيك ما انْزَوى   ولا تَلْقَني إلا وأنفُكَ راغِمُ
وإذا سأله طوَى كشحه، وإذا زاده في السؤال وأكثر عليه ولاّه ظهره. فرتّب الله العقوبة على حال المعصية. الثانية ـ واختلفت الآثار في كيفية الكيّ بذلك ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذرّ ما ذكرنا من ذكر الرَّضْف. وفيه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من صاحب ذهبٍ ولا فِضة لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يومُ القيامة صُفّحت له صفائح من نارٍ فأُحمى عليها في نار جهنم فيُكْوَى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بَرَدَت أُعيدت له في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقْضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار " الحديث. وفي البخاريّ: أنه يُمثّل له كنزه شجاعاً أقرع. وقد تقدّم في غير الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال: من كان له مال فلم يؤدّ زكاته طُوِّقه يوم القيامة شجاعاً أقرع ينقُر رأسه. قلت: ولعلّ هذا يكون في مواطن: موطن يمثَّل المال فيه ثعباناً، وموطن يكون صفائح، وموطن يكون رَضْفاً. فتتغيّر الصفات والجسمية واحدة فالشجاع جسم والمال جسم. وهذا التمثيل حقيقة بخلاف قوله: " يؤتى بالموت كأنه كبش أملح " فإن تلك طريقة أُخرى، ولله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء. وخُصّ الشجاع بالذكر لأنه العدوّ الثاني للخلق. والشجاع من الحيات هو الحية الذكر الذي يواثِب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبَه وربما بلغ الفارس، ويكون في الصّحارى.

السابقالتالي
2