الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ }

الفاء عاطفة على قولهولا تقربا } البقرة 35 وحَقها إفادة التعقيب فيكون التعقيب عرفياً لأن وقوع الإزلال كان بعدَ مضي مدة هي بالنسبة للمدة المرادة من سكنى الجنة كالأَمد القليل. والأحسن جعل الفاء للتفريع مجردة عن التعقيب. والإزلال جعل الغير زَالاًّ أي قائماً به الزلل وهو كالزَلَق أن تسير الرجلان على الأرض بدون اختيار لارتخاء الأرض بطين ونحوه، أي ذاهبة رجلاه بدون إرادة، وهو مجاز مشهور في صدور الخطيئة والغلط المضر ومنه سمي العصيان ونحوه الزلل. والضمير في قوله { عنها } يجوز أن يعود إلى الشجرة لأنها أقرب وليتبين سبب الزلة وسبب الخروج من الجنة إذ لو لم يجعل الضمير عائداً إلى الشجرة لخلت القصة عن ذكر سبب الخروج. وعن في أصل معناها أي أزلهما إزلالاً ناشئاً عن الشجرة أي عن الأكل منها، وتقدير المضاف دل عليه قوله { ولا تقربا هذه الشجرة } ، وليست عن للسببية ومن ذكر السببية أراد حاصل المعنى كما قال أبو عبيدة في قوله تعالىوما ينطق عن الهوى } النجم 3 أن معناه وما ينطق بالهوى فقال الرضي الأوْلى أن عن بمعناها وأن الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي نطقاً صادراً عن الهوى. ويجوز كون الضمير للجنة وتكون عن على ظاهرها والإزلال مجازاً في الإخراج بكره والمراد منه الهبوط من الجنة مكرهين كمن يزل عن موقفه فيسقط كقوله «وكم منزل لولايَ طِحْتَ». وقولُه { فأخرجهما مما كانا فيه } تفريع عن الإزلال بناء على أن الضمير للشجرة، والمراد من الموصول وصلته التعظيم، كقولهم قد كان ما كان، فإن جعلت الضمير في قوله { عنها } عائداً إلى الجنة كان هذا التفريع تفريع المفصَّل عن المجمل وكانت الفاء للترتيب الذكْري المجرَّد كما في قوله تعالىوكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أوْ هُم قائلون } الأعراف 4 وقولهكذَّبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدُجِر } القمر 9. أما دلالة الموصول عن التعظيم فهي هي. وقرأ حمزة «فأزالهما» بألف بعد الزاي وهو من الإزالة بمعنى الإبعاد، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون ضمير { عنها } عائداً إلى الجنة لا إلى الشجرة. وقد نُبه عليه بخصوصه مع العلم بأن من خَرج من الجنة فقد خرج مما كان فيه إحضاراً لهذه الخسارة العظيمة في ذهن السامعين حتى لا تكون استفادتها بدلالة الالتزام خاصة فإنها دلالة قد تخفى فكانت إعادته في هذه الصلة بمرادفه كإعادته بلفظه في قوله تعالىفغَشِيَهم من اليَمِّ ما غَشِيَهُم } طه 78. وتفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى وموعظة تُنبِّهُ بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم وتربيةِ العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سبباً في جر هذه المصيبة لأبيهم حتى يكونوا أبداً ثأراً لأبيهم مُعادين للشيطان ووسوسته مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4