الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

أي قُلْ ردًّا عليهم في اغترارهم بكثرة الأموال والأولاد: { إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [سبأ: 36] يبسط: يُوسع الرزق بكرمه، ويقدر: يعني: يضيقه على مَنْ يشاء بحكمته تعالى. والرزق لازمة من لوازم الربوبية التي خَلَقَتْ، والتي استدعت الإنسان للوجود، فلا بُدَّ أن تضمن له مقومات حياته. لكن الرازق سبحانه لا يرزق الناس جميعاً بمسطرة يعني بالتساوي لأن الله تعالى يريد أن تكون المجتمعات متعاونة متكافلة، ولو أن كل إنسان كان عنده ما يكفيه ما احتاج أحد إلى أحد، وما حدث في المجتمع هذا الترابط وهذا الاتصال الجماعي. وسبق أنْ أوضحنا أن ترابط المجتمع لا بُدَّ أنْ يكون ترابط حاجة، لا ترابط تفضّل، فلو فرضنا أننا جميعاً تخرّجنا في الجامعة، أو أخذنا الدكتوراة، فمن يكنس الشوارع، ومن يمسح الأحذية؟ لو جعلنا هذه الأعمال تفضّلاً من بعضنا ما قَبِلها أحد. وقلنا: إن الرجل المتعجرف أو المتكبر أو الباشا لو عاد إلى بيته فوجد به رائحة كريهة فسأل فقالوا: المجاري بها كذا وكذا لا شكّ أنه لن يهدأ له بال حتى تنتهي هذه المشكلة، وربما ركب سيارته، وذهب بنفسه إلى السباك ليُخلِّصه من هذه المشكلة. نقول في هذه الحالة: إن السباك فاضل على الباشا في هذا الوقت، لأن الله أعطاه قدرة على نفسه لا يملكها الباشا أو حامل الدكتوراة، وهذا السباك ما تحمَّل مثل هذا العمل إلا لحاجته إليه وإلا ما قَبِلَه. لذلك أحسن الشاعر حين قال:
النَّاس للنَّاسِ من بَدْوٍ وحَاضِرةٍ   بَعْضٌ لبعْضٍ وإنْ لم يَشْعُروا خَدَمُ
وهذه الخدمة تقوم على التداول، فالحق سبحانه لم يجعل ذرية كلها خادمة، وذرية مخدومة، إنما أنت خادم في شيء ومخدوم في شيء آخر، وهكذا كلنا خادم، وكلنا مخدوم، ليعلم الإنسان أياً كان أنه ابن أغيار، وأن سيادته ليست ذاتية فيه، فإنْ كان هو الأعلى عليه أنْ يُقدر هذا العلو ويعمل له ليظل على عُلُوه، فإنْ رأى الأدنى منه فلا يحقره، بل يُقدِّر له مهمته في خدمته، وأنه سيحتاج إليه في يوم ما في عمل لا يقدر هو عليه. لذلك يقول تعالى:وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ.. } [النحل: 71] كثيرون يظنون أن الرزق هو المال، إنما الرزق كلمة عامة يُراد بها كل ما ينتفع به الإنسان، والحق سبحانه فضَّل بعضنا على بعض في هذه الأشياء، لكن أيُّ بعض فضَّل؟ وأيُّ بعض فضَّل عليه؟ أنت مُفضَّل فيما لك فيه موهبة، ومفضَّل عليه فيما لا موهبةَ لك فيه، وهكذا يتكاتف المجتمع ويتكامل، ويرتبط ارتباطَ حاجة لا ارتباطَ تفضُّل. وتأمل قوله تعالى:فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ }

السابقالتالي
2