الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: { فَظَلَّتْ أعْناقُهُمْ... } الآية، فقال بعضهم: معناه: فظلّ القوم الذين أنزل علـيهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذَلَّة. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد فـي قوله: { فَظَلَّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعينَ } قال: فظلوا خاضعة أعناقهم لها. حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، فـي قوله { خاضِعِينَ } قال: لو شاء الله لنزّل علـيه آية يذلون بها، فلا يَـلْوِي أحد عنقه إلـى معصية الله. حدثنا القاسم قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج { أنْ لا يَكُونُوا مُؤْمِنِـينَ إنْ نَشأْ نُنَزّلْ عَلَـيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً } قال: لو شاء الله لأراهم أمراً من أمره لا يعمل أحد منهم بعده بـمعصية. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { فَظَلَّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعِينَ } قال: ملقـين أعناقهم. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { فَظَلَّتْ أعْناقُهُمْ لَهَا خاضِعِينَ } قال: الـخاضع: الذلـيـل. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلت سادتهم وكبراؤهم للآية خاضعين، ويقول: الأعناق: هم الكبراء من الناس. واختلف أهل العربـية فـي وجه تذكير خاضعين، وهو خبر عن الأعناق، فقال بعض نـحويِّـي البصرة: يزعمون أن قوله { أعْناقُهُمْ } علـى الـجماعات، نـحو: هذا عنق من الناس كثـير، أو ذُكِّركما يذكَّر بعض الـمؤنث، كما قال الشاعر:
تَـمَزَّزْتها والدّيكُ يَدْعُو صَبـاحَهُ   إذا ما بنو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوَّبُوا
فجماعات هذا أعناق، أو يكون ذكره لإضافته إلـى الـمذكر كما يؤنث لإضافته إلـى الـمؤنث، كما قال الأعشى:
ونَشْرَقُ بـالقَوْل الَّذي قَدْ أذَعْتَه   كمَا شَرقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدَّم
وقال العجاج:
لَـمَّا رأى مَتْنَ السَّماء أبْعَدَتْ   
وقال الفرزدق:
إذَا الْقُنْبُضَات السُّود طَوَّفْنَ بـالضحى   رَقَدْنَ عَلَـيْهِنَّ الـحِجالُ الـمَسَجَّفُ
وقال الأعشى:
وَإنَّ امْرَأً أهْدَى إلَـيْكِ وَدُونَهُ   مِنَ الأرْضِ يَهْماءٌ وَبَـيْدَاءُ خَيْفَقُ
لَـمَـحْقُوقَةٌ أن تَسْتَـجِيبِـي لِصَوْتِهِ   وأنْ تَعْلَـمِي أنَّ الـمُعانَ الـمُوَفَّقُ
قال: ويقولون: بنات نعش وبنو نعش، ويقال: بنات عِرس، وبنو عِرس وقالت امرأة: أنا امرؤ لا أخبر السرّ، قال: وذكر لرؤبة رجل فقال: هو كان أحد بنات مساجد الله، يعنـي الـحَصَى. وكان بعض نـحويـي الكوفة يقول: هذا بـمنزلة قول الشاعر:
تَرَى أرْماحَهُمْ مُتَقَلدِيها   إذَا صَدِىءَ الـحَدِيدُ علـى الكُماةِ
فمعناه عنده: فظلت أعناقهم خاضعيها هم، كما يقال: يدك بـاسطها، بـمعنى: يدك بـاسطها أنت، فـاكتفـى بـما ابتدأ به من الاسم أن يكون، فصار الفعل كأنه للأوّل وهو للثانـي، وكذلك قوله: لـمـحقوقة أن تستـجيبـي لصوته إنـما هو لـمـحقوقة أنت، والـمـحقوقة: الناقة، إلا أنه عطفه علـى الـمرء لـما عاد بـالذكر. وكان آخر منهم يقول: الأعناق: الطوائف، كما يقال: رأيت الناس إلـى فلان عنقاً واحدة، فـيجعل الأعناق الطوائف والعُصَب ويقول: يحتـمل أيضاً أن تكون الأعناق هم السادة والرجال الكبراء، فـيكون كأنه قـيـل: فظلت رؤوس القوم وكبراؤهم لها خاضعين، وقال: أحبُّ إلـيّ من هذين الوجهين فـي العربـية أن يقال: إن الأعناق إذا خضعت فأربـابها خاضعون، فجعلْت الفعل أوّلاً للأعناق، ثم جَعَلْتَ خاضعين للرجال، كما قال الشاعر:

السابقالتالي
2