الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }

ردٌّ لقولهمذلك رجع بعيد } ق 3 فإن إحالتهم البعث ناشئة عن عدة شبه منها أن تفرق أجزاء الأجساد في مناحِي الأرض ومهابّ الرياح لا تُبقي أملا في إمكان جمعها إذ لا يحيط بها محيط وأنها لو علمت مواقعها لتعذر التقاطها وجمعها، ولو جمعت كيف تعود إلى صورها التي كانت مشكَّلة بها، وأنها لو عادت كيف تعود إليها، فاقتصر في إقلاع شبههم على إقلاع أصلها وهو عدم العلم بمواقع تلك الأجزاء وذرّاتها. وفُصِلت الجملة بدون عطف لأنها ابتداء كلام لرد كلامهم، وهذا هو الأليق بنظم الكلام. وقيل هي جواب القسم كما علمته آنفا وأيًّا مَّا كان فهو رد لقولهم { ذلك رجع بعيد }. والمعنى أن جمع أجزاء الأجسام ممكن لا يعزب عن علم الله، وإذا كان عالماً بتلك الأجزاء كما هو مقتضى عموم العلم الإلهي وكان قد أراد إحياء أصحابها كما أخبر به، فلا يعظم على قدرته جمعها وتركيبها أجساماً كأجسام أصحابها حين فارقوا الحياة فقوله { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } إيماء إلى دليل الإمكان لأن مرجعه إلى عموم العلم كما قلنا. فأساس مبنى الرد هو عموم علم الله تعالى لأن يجمع إبطال الاحتمالات التي تنشأ عن شبهتهم فلو قال، نحن قادرون على إرجاع ما تنقص الأرض منهم لخطر في وساوس نفوسهم شبهة أن الله وإن سلمنا أنه قادر فإن أجزاء الأجساد إذا تفرقت لا يعلمها الله حتى تتسلط على جمعها قدرتُه فكان البناء على عموم العلم أقطع لاحتمالاتهم. واعلم أن هذا الكلام بيان للإمكان رعيا لما تضمنه كلامهم من الإحالة لأن ثبوت الإمكان يَقلع اعتقاد الاستحالة من نفوسهم وهو كاف لإبطال تكذيبهم ولاستدعائهم للنظر في الدعوة، ثم يبقى النظر في كيفية الإعادة، وهي أمر لم نكلف بالبحث عنه وقد اختلف فيها أيمة أهل السنة فقال جمهور أهل السنة والمعتزلة تعاد الأجسام بعد عدمها. ومعنى إعادتها. إعادة أمثالها بأن يخلق الله أجساداً مثل الأولى تودع فيها الأرواح التي كانت في الدنيا حالّة في الأجساد المعدومة الآن فيصير ذلك الجسم لصاحب الروح في الدنيا وبذلك يحق أن يقال إن هذا هو فلان الذي عرفناه في الدنيا إذ الإنسان كان إنساناً بالعقل والنطق، وهما مَظهر الروح. وأما الجسد فإنه يتغير بتغيرات كثيرة ابتداء من وقت كونه جنينا، ثم من وقت الطفولة ثم ما بعدها من الأطوَار فتخلف أجزاؤُه المتجددة أجزاءَه المتقضيّة، وبرهان ذلك مبيّن في علم الطّبيعيات، لكن ذلك التغير لم يمنع من اعتبار الذات ذاتا واحدة لأن هُوية الذات حاصلة من الحقيقة النوعية والمشخصات المشاهدة التي تتجدد بدون شعور مَن يشاهدها. فلذا كانت حقيقة الشخص هي الروح وهي التي تُكتسَى عند البعث جسد صاحبها في الدنيا، فإن الناس الذين يموتون قبل قيام الساعة بزمن قليل لا تَبلى في مثله أجسامهم تُرجَّع أرواحهم إلى أجسادهم الباقية دون تجديدِ خلقها، ولذلك فتسمية هذا الإيجاد معاداً أو رجْعاً أو بعثاً إنما هي تسمية باعتبار حال الأرواح، وبهذا الاعتبار أيضاً تشهد على الكفار ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون لأن الشاهد في الحقيقة هو ما به إدراك الأعمال من الروح المبثوثة في الأعضاء.

السابقالتالي
2 3