الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ } * { ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ } * { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }

افتتاح السورة بالقسم تحقيق لما يقسم عليه وتشويق إليه كما تقدم في سوابقها. ووقع القسم بمخلوقَين عظيمين فيهما دلالة على عظيم قدرة خالقهما هما السماء، والنجوم، أو نجم منها عظيم منها معروف، أو ما يبدو انقضاضه من الشهب كما سيأتي. و { الطارق } وصف مشتق من الطروق، وهو المجيء ليلاً لأن عادة العرب أن النازل بالحي ليلاً يطرق شيئاً من حجر أو وتد إشعاراً لرب البيت أن نزيلاً نزل به لأن نزوله يقضي بأن يضيفوه، فأطلق الطروق على النزول ليلاً مجازاً مرسلاً فغلب الطروق على القدوم ليلاً. وأبهم الموصوف بالطارق ابتداء، ثم زيد إبهاماً مشوباً بتعظيم أمره بقوله { وما أدراك ما الطارق } ثم بُين بأنه { النجم الثاقب } ليحصل من ذلك مزيد تقرر للمراد بالمقسم به وهو أنه من جنس النجوم، شُبه طلوع النجم ليلاً بطروق المسافر الطارق بيتاً بجامع كونه ظهوراً في الليل. و { ما أدراك } استفهام مستعمل في تعظيم الأمر، وقد تقدم عند قوله تعالىوما يدريك لعل الساعة قريب } في سورة الشورى 17، وعند قولهوما أدراك ما الحاقة } الحاقة 3 وتقدم الفرق بين ما يدريك، وما أدراك. وقوله { النجم } خبر عن ضمير محذوف تقديره هو، أي الطارق النجم الثاقب. والثقب خرق شيء ملتئم، وهو هنا مستعار لظهور النور في خلال ظلمة الليل. شبه النجم بمسمار أو نحوه، وظهورُ ضوئه بظهور ما يبدو من المسمار من خلال الجسم الذي يثقبه مثل لَوح أو ثَوب. وأحسب أن استعارة الثقب لبروز شعاع النجم في ظلمة الليل من مبتكرات القرآن ولم يرد في كلام العرب قبل القرآن. وقد سبق قوله تعالىفأتبعه شهاب ثاقب } في سورة الصافات 10، ووقع في تفسير القرطبي والعرب تقول اثقُب نارك، أي أضئها، وساق بيتاً شاهداً على ذلك ولم يعزه إلى قائل. والتعريف في { النجم } يجوز أن يكون تعريف الجنس كقول النابغة
أقول والنجمُ قد مَالت أواخِره... البيت   
فيستغرق جميع النجوم استغراقاً حقيقياً وكلها ثاقب فكأنه قِيلَ، والنجوم، إلا أن صيغة الإفراد في قوله { الثاقب } ظاهر في إرادة فرد معيّن من النجوم، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إشارة إلى نجم معروف يطلق عليه اسم النجم غالباً، أي والنجم الذي هو طارق. ويناسب أن يكون نجماً يَطلع في أوائل ظلمة الليل وهي الوقت المعهود لِطروق الطارقين من السائرين. ولعل الطارق هو النجم الذي يسمى الشاهد، وهو نجم يظهر عقب غروب الشمس، وبه سميت صلاة المغرب «صلاةَ الشاهد». روى النسائي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن هذه الصلاة أي العصر فرضت على من كان قبلكم فضيعوها " إلى قوله " ولا صلاة بعدَها حتى يطلع الشاهد "

السابقالتالي
2