الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }

{ إِنَّآ أَنذَرْنَـٰكُمْ عَذَاباً قَرِيباً }. اعتراض بينمئاباً } النبأ 39 وبين { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } كيفما كان موقع ذلك الظرف حسبما يأتي. والمقصود من هذه الجملة الإِعذار للمخاطبين بقوارع هذه السورة بحيث لم يبق بينهم وبين العلم بأسباب النجاة وضدها شُبهةٌ ولا خفاء. فالخبر وهو { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } مستعمل في قطع العذر وليس مستعملاً في إفادة الحكم لأن كون ما سبق إنذاراً أمر معلوم للمخاطبين. وافتُتح الخبر بحرف التأكيد للمبالغة في الإِعذار بتنزيلهم منزلة من يتردد في ذلك. وجُعل المسند فعلاً مسنداً إلى الضمير المنفصل لإفادة تقوّي الحكم، مع تمثيل المتكلم في مَثَل المتبرىء من تبعه ما عسى أن يلحق المخاطبين من ضرٍّ إن لم يأخذوا حذرهم مما أنذرهم به كما يقول النذير عند العرب بعد الإِنذار بالعدوّ «أنا النذير العريان». والإِنذار الإِخبار بحصول ما يسوء في مستقبل قريب. وعُبر عنه بالمضي لأن أعظم الإِنذار قد حصل بما تقدم من قولهإن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مئاباً } النبأ 21 ـــ 22 إلى قولهفلن نزيدكم إلا عذاباً } النبأ 30. وقرب العذاب مستعمل مجازاً في تحققه وإلا فإنه بحسب العرف بعيد، قال تعالىإنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } المعارج 6، 7، أي لتحققه فهو كالقريب على أن العذاب يصدق بعذاب الآخرة وهو ما تقدم الإِنذار به، ويصدق بعذاب الدنيا من القتل والأسر في غزوات المسلمين لأهل الشرك. وعن مقاتل هو قَتْل قريش ببدر. ويشمل عذاب يوم الفتح ويوم حنين كما ورد لفظ العذاب لذلك في قوله تعالىيعذبهم اللَّه بأيديكم } التوبة 14 وقولهوإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } الطور 47. { يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلْكَافِرُ يَـٰلَيْتَنِى كُنتُ تُرَٰبَاً }. يجوز أن يتعلق بفعلِاتخذ إلى ربه مئاباً } النبأ 39 فيكون { يوم ينظر } ظرفاً لغْواً متعلقاً بــــ { أنذرناكم }. ويجوز أن يكون بدلاً منيوم يقوم الروح والملائكة صفاً } النبأ 38 لأن قيام الملائكة صفّاً حضور لمحاسبة الناس وتنفيذ فصل القضاء عليهم وذلك حين ينظر المرء ما قدمت يداه، أي ما عمله سالفاً فهو بدل من الظرف تابع له في موقعه. وعلى كلا الوجهين فجملة { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } معترضة بين الظرف ومتعلقه أو بينه وبين ما أبدل منه. والمرء اسم للرجل إذ هو اسم مؤنثُه امرأة. والاقتصار على المرء جَريٌ على غالب استعمال العرب في كلامهم، فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارجَ البيت. والمراد ينظر الإِنسان من ذكر أو أنثى، ما قدمت يداه، وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خُص منها بأحد الصنفين لأن الرجل هو المستحضَر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب.

السابقالتالي
2 3