الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }

افتتح خطابهما بالنداء اهتماماً بما يلقيه إليهما من التعبير، وخاطبهما بوصف { صاحبي السجن } أيضاً. ثم إذا كان الكلام المحكي عن يوسف ـــ عليه السّلام ـــ في الآية صدر منه على نحو النظم الذي نظم به في الآية وهو الظاهر كان جَمع التأويلَ في عبارة واحدة مجملة، لأن في تأويل إحدى الرؤيين ما يسوء صاحبَها قصداً لتلقيه ما يسوء بعدَ تأمل قليل كيلا يفجأه من أول الكلام، فإنه بعد التأمل يعلم أن الذي يسقي ربه خمراً هو رَائي عَصر الخمر، وأن الذي تأكل الطير من رأسه هو رائي أكل الطير من خبزٍ على رأسه. وإذا كان نظم الآية على غير ما صَدر من يوسف ـــ عليه السّلام ـــ كان في الآية إيجاز لحكاية كلام يوسف ـــ عليه السّلام ـــ، وكان كلاماً معيّناً فيه كل من الفتيين بأن قال أما أنتَ فكيْت وكيْت، وأما أنت فكَيْت وكيْت، فحُكي في الآية بالمعنى. وجملة { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } تحقيق لما دلت عليه الرؤيا، وأن تعبيرها هو ما أخبرهما به فإنهما يستفتيان في دلالة الرؤيا على ما سيكون في شأن سجنهما لأن ذلك أكبر همهما، فالمراد بالأمر تعبير رؤياهما. والاستفتاء مصدر استفتَى إذا طلب الإفتاء. وهو الإخبار بإزالة مشكل، أو إرشاد إلى إزالة حيرة. وفعله أفتى مُلازم للهمز ولم يسمع له فعل مُجرد، فدل ذلك على أن همزه في الأصل مجتلب لمعنًى، قالوا أصل اشتقاق أفتى من الفتى وهو الشاب، فكأنّ الذي يفتيه يقوي نهجه ببيانه فيصير بقوة بيانه فَتِيّا أي قوياً. واسم الخبر الصادر من المفتي فتوى ـــ بفتح الفاء وبضمها مع الواو مقصوراً، وبضم الفاء مع الياء مقصوراً ـــ.