الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ }

فيه ثمان مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ } الصبر: الحبس في اللغة. وقُتِل فلان صَبراً أي أُمْسِك وحُبِس حتى أُتلف. وصَبَرْتُ نفسي على الشيء: حبستها. والمصبورة التي نُهى عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت، وهي المُجَثَّمة. وقال عنترة:
فصَبَرْتُ عارفةً لذلك حُرّةً   تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبان تَطلّعُ
الثانية: أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال: «وَٱصْبِرُوا». يقال: فلان صابر عن المعاصي وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة هذا أصح ما قيل. قال النحاس: ولا يقال لمن صبر على المعصية: صابر إنما يقال: صابر على كذا. فإذا قلت: صابر مطلقاً فهو على ما ذكرنا قال الله تعالى:إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10]. الثالثة: قوله تعالى: { وَٱلصَّلاَةِ } خصّ الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكره. و: كان عليه السلام إذا حَزَبَه أمْرٌ فَزَع إلى الصلاة ومنه ما روي أن عبد اللَّه بن عباس نُعِيَ له أخوه قُثَم ـ وقيل بنت له ـ وهو في سفر فاسترجع وقال: عَوْرة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله. ثم تنحَّى عن الطريق وصلّى، ثم ٱنصرف إلى راحلته وهو يقرأ: { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ }. فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية. وقال قوم: هي الدعاء على عُرْفها في اللغة فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى:إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } [الأنفال: 45] لأن الثبات هو الصبر، والذكر هو الدعاء. وقول ثالث، قال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهّد في الدنيا، والصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر، وتُخشع ويُقرأ فيها القرآن الذي يذكّر الآخرة. والله أعلم. الرابعة: الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين. قال يحيى بن اليَمان: الصبر ألا تتمنّى حالة سوى ما رزقك الله، والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك. وقال الشعبيّ: قال عليّ رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. قال الطبري: وصدق عليّ رضي الله عنه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق. فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به. الخامسة: وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدًّا فقال:مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160]. وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال:

السابقالتالي
2 3