الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }

فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { ٱتْلُ } أمر من التلاوة والدُّءوب عليها. وقد مضى في «طه» الوعيد فيمن أعرض عنها، وفي مقدّمة الكتاب الأمر بالحض عليها. والكتاب يراد به القرآن. الثانية: قوله تعالى: { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته وإقامة الصلاة أداؤها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وتشهدها وجميع شروطها. وقد تقدّم بيان ذلك في «البقرة» فلا معنى للإعادة. الثالثة: قوله تعالى: { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } يريد إن الصلاة الخمس هي التي تكفر ما بينها من الذنوب كما قال عليه السلام: " «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من دَرَنه شيء» قالوا: لا يبقى من دَرَنه شيء قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا» " خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال فيه حديث حسن صحيح. وقال ابن عمر: الصلاة هنا القرآن. والمعنى: الذي يتلى في الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر، وعن الزنى والمعاصي. قلت: ومنه الحديث الصحيح: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " يريد قراءة الفاتحة. وقال حماد بن أبي سليمان وابن جُريج والكلبي: العبد ما دام في صلاته لا يأتي فحشاء ولا منكراً أي إن الصلاة تنهى ما دمت فيها. قال ابن عطية: وهذه عجمة وأين هذا مما رواه أنس بن مالك قال: " كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئاً من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فذُكِر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الصلاة ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم أقل لكم» " وفي الآية تأويل ثالث، وهو الذي ارتضاه المحققون وقال به المشيخة الصوفية وذكره المفسرون فقيل المراد بـ { أَقِمِ الصَّلاَةَ } إدامتها والقيام بحدودها، ثم أخبر حكماً منه بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر وذلك لما فيها من تلاوة القرآن المشتمل على الموعظة. والصلاة تشغل كل بدن المصلّي، فإذا دخل المصلّي في محرابه وخشع وأخبت لربه وادكر أنه واقف بين يديه، وأنه مطلع عليه ويراه، صلحت لذلك نفسه وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تعالى، وظهرت على جوارحه هيبتها، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة. فهذا معنى هذه الأخبار، لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون. قلت: لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله، وهذا أبلغ في المقصود وأتم في المراد فإن الموت ليس له سنّ محدود، ولا زمن مخصوص، ولا مرض معلوم، وهذا مما لا خلاف فيه.

السابقالتالي
2 3