الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ }؛ أي استعينوا على ما استقبَلَكم من أنواع البلايا. وقيلَ: على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض؛ وبالصلاة على تَمحيصِ الذنوب. وقيل: استعينوا بالصَّبر والصلاة على ما يَذْهَبُ منكم من الرئاسة والْمَأْكَلَةِ باتِّباع مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وقال مجاهدُ: (الصَّبْرُ فِي هَذِهِ الآيَةِ الصَّوْمُ). وقيل: (الواو) هنا بمعنى (على)؛ تقديره: استعينوا فيما يَنُوبُكُمْ بالصبر على الصلاة؛ كقولهِ تعالى:وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [طه: 132].

وروي أن ابنَ عباس نُعِيَتْ إلَيْهِ بنْتٌ لَهُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ؛ فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: (عَوْرَةٌ سَتَرَهَا اللهُ؛ وَمُؤْنَةٌ كَفَاهَا اللهٌ؛ وَأجْرٌ سَاقَهُ اللهٌ). ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: (صَنَعْنَا مَا أمَرَنَا اللهُ بهِ: وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

وأصلُ الصَّبْرِ هُوَ الْحَبْسُ، يقال: قُتِلَ فُلاَنٌ صَبْراً؛ إذا حُبس حيّاً حتى ماتَ، وقيل: الصَّبْرُ هو الصومُ؛ ويسمَّى شهر رمضان شهر الصَّبر، وسُمي الصوم صبراً؛ لأن صاحبه يحبسُ نفسه عن الطعام والشراب.

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِين }؛ يحتملُ أنَّ الهاء كنايةٌ عن الصلاة؛ لأنَّها أشرفُ الطاعات، ويحتمل أن تكون عن الاستعانةِ، ويحتمل أن يكون المرادُ بها الصبر والصلاةُ جميعاً، كما قال الله تعالى:وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 62] فاكتفى بذكرِ أحدهما دلالةً على الآخرِ. ونظيرُ القول الأول قَوْلُهُ تعَالَى:وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [التوبة: 34] ردَّ الكنايةَ إلى الفضة لأنَّها أغلبُ وأعم. وقال تعالى:وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [الجمعة: 11] ردَّ الكنايةَ إلى التجارة لأنَّها الأهم والأفضلُ. وقال الأخفشُ: (رَدَّ الْكِنَايَةَ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ أرَادَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهُمَا الْكَبيْرَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } [الكهف: 33] يَعْنِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى:وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [المؤمنون: 50] وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ؛ أرَادَ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آيَةً).

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي ثقيلةٌ شديدةٌ إلا على الخاشعين؛ أي المؤمنين. وقيلَ: إلا العابدين المطيعين. وقيلَ: الخائفين. وقيل: المتواضعين. وقال الزجَّاجُ: (الْخَاشِعُ الَّذِي يُرَى أثَرُ الذُّلِّ وَالْخُشُوعِ عَلَيْهِ؛ وَيُقَالُ: خَشَعَ؛ إذَا رَمَى ببَصَرِهِ إلَى الأَرْضِ، وَأخْشَعَ إذَا طَأْطَأَ رَأسَهُ لِلسُّجُودِ). والخشوعُ والخضوعُ نظيران؛ إلا أن الخضوعَ يكون بالبدن والخشوعَ بالبصر والصوتِ والقلب كما قالَ تعالى:خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ } [القلم: 43]وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ } [طه: 108]أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ } [الحديد: 16].