الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }

{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ } أي: فرضنا على اليهود في التوراة { أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } أي: مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق { وَٱلْعَيْنَ } مفقوءة { بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ } مجدوع { بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ } مقطوعة { بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ } مقلوعة { بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ } أي: ذات قصاص، أي: يقتص فيها إذا أمكن. كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وإلا - ككسر عظم وجرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته - فلا قصاص، بل فيه حكومة عدل.

تنبيهات

الأول: هذه الآية مما وُبِّخَت به اليهود أيضاً وَقُرِّعت عليه. فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس. وقد خالفوا حكم ذلك عمداً وعناداً. فأقادوا النضريّ من القرظيّ، ولم يُقِيدوا القرظي من النضريّ. وعدلوا إلى الدية، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك:وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [المائدة: 44]؛ لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً. وقال ههنا - في تتمة الآية: { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه. فخالفوا وظلموا، وتعدوا على بعضهم بعضاً - أفاده ابن كثير.

الثاني: قوله تعالى: { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } والمعطوفات بعده، كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل { أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء (كتبنا) مجرى (قلنا) وإما لأن معنى الجملة هي قولك: " النَّفْسُ بِالنَّفْسِ " مما يقع عليه (الكتب) كما تقع عليه (القراءة)، تقول: كتبت الحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها. ولذلك قال الزجاج: لو قرئ: " إنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ " بالكسر لكان صحيحاً. كذا في الكشاف. وقد توسع الخفاجيّ في (العناية) في بحث الرفع - هنا - على عادته في النحويات. فانظره إن شئت.

روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ والحاكم عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } نصب النفس ورفع العين. قال الترمذي: حسن غريب. وقال البخاريّ: تفرد ابن المبارك بهذا الحديث.

الثالث: استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا - إذا حكي مقرراً؛ ولم ينسخ؛ كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الأسفرايينيّ عن نص الشافعي وأكثر أصحابه - بهذه الآية. حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصريّ: هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم. وقد حكى الإمام أبو منصور بن الصباغ في كتابه (الشامل) اجتماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه.

السابقالتالي
2 3 4