الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }

بعد أن ذكر الله تعالى بعض مواكب الرسل في إبراهيم وفي موسى ونوح وصالح وهود ولوط وفي شعيب، ثم تكلَّم سبحانه عن الذين كذبوا هؤلاء الرسلفَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ.. } [العنكبوت: 40] أراد سبحانه أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يزعجه، ولا يرهقه، أو يتعب نفسه موقف الكافرين به الذين يصدون عن سبيل الله، ويقفون من الدعوة موقف العداء. فقال له مُسلِّياً: { ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ.. } [العنكبوت: 45] يعني: لِمَ تحزن يا محمد ومعك الأُنْس كله، الأُنْس الذي لا ينقضي، وهو كتاب الله ومعجزته التي أنزلها إليك، فاشتغل به، فمع كل تلاوة له ستجد سكناً إلى ربك. وإذا كان هؤلاء الذين عاصروك لم يؤمنوا به، ولم يلتفتوا إلى مواطن الإعجاز فيه فداوم أنت على تلاوته عَلَّ الله يأتي من هؤلاء بذرية تصفو قلوبهم لاستقبال إرسال السماء، فيؤمنون بما جحده هؤلاء، والأمر بالتلاوة لبقاء المعجزة. { ٱتْلُ.. } [العنكبوت: 45] اقرأ ولا تعجز ولا تيأس، فالقرآن سلوة لنفسك لأن الذي يرسل رسولاً من البشر بشيء أو في أمر من الأمور، ثم يكذب يرجع إلى مَنْ أرسله، فما دام قومك قد كذَّبوك، فارجع إليَّ بأن تستمع إلى كتابي الذي أنزلتُه معجزة لك تؤيدك، وانتظر قوماً يأتون يسمعون منك كلام الله، فيصادف منهم قلوباً صافية، فيؤمنون به. وفَرْق بين الفاعل والقابل، والقرآن يُوضِّح هذه المسألة، فمن الناس مَنْ إذا سمعوا القرآن تخشع له قلوبهم، وتقشعر جلودهم، ومنهم مَنْ إذا سمعوه قالوا على سبيل الاستهزاءمَاذَا قَالَ آنِفاً.. } [محمد: 16] تهويناً من شأن القرآن، ومن شأن رسول الله. ثم يقرر القرآن هذه الحقيقة:قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى.. } [فصلت: 44]. إذن: فالقرآن واحد، لكن المستقبل للقرآن مختلف، فالعبرة في صفاء الاستقبال لأن الإرسال واحد، وهل تتهم الإذاعة إنْ كان جهار الراديو عندك معطلاً، لا يستقبل إرسالها؟ كذلك مَنْ أراد أن يستقبل إرسال السماء فعليه أنْ يُعِد الأذن الواعية والقلب الصافي غير المشوش بما يخالف إرسال السماء، عليك أنْ تُخرِج ما في نفسك أولاً من أضداد للقرآن، ثم تستقبل كلام الله وتنفعل به. وسبق أنْ مثَّلْنا لاختلاف المنفعل للفعل بمَنْ ينفخ في يده وقت البرد بقصد التدفئة، وبمَنْ ينفخ بنفَسه في الشاي مثلاً ليبرده، فهذه للحرارة، وهذه للبرودة، الفعل واحد، لكن المنفعل مختلف. فقوله تعالى: { ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ.. } [العنكبوت: 45] هذه هي مَيْزة معجزتك يا محمد أنك تستطيع أنْ تكرِّرها في كل وقت، وأن تتلوها كما تشاء، وأن يتلوها بعدك مَنْ سمعها، وستظل تتردد إلى يوم القيامة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7