الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }

لما كانت شبهة نفاة البعث قائمة على توهم استحالة إعادة الأجسام بعد فنائها أعقب تهديدهم بما يقوض توهمهم فوُجه إليه الخطاب يُذكرهم بأن الله خلق أعظم المخلوقات ولم تكن شيئاً فلا تعدّ إعادة الأشياء الفانية بالنسبة إليها إلاّ شيئاً يسيراً كما قال تعالىلخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون } غافر 57. وهذه الجملة والجمل المعطوفة عليها إلى قولهإني لكم منه نذير مبين } الذاريات 51 معترضة بين جملةوقوم نوح من قبل } الذاريات 46 الخ وجملةكذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول } الذاريات 52 الآية. وابتدىء بخلق السماء لأن السماء أعظم مخلوق يشاهده الناس، وعطف عليه خلق الأرض عطفَ الشيء على مخالفه لاقتران المتخالفين في الجامع الخيالي. وعطف عليها خلق أجناس الحيوان لأنها قريبة للأنظار لا يكلف النظرُ فيها والتدبر في أحوالها ما يرهق الأذهان. واستعير لخلق السماء فعل البناء لأنه منظر السماء فيما يبدو للأنظار شبيه بالقبة ونصب القبة يُدعى بناءً. وهذا استدلال بأثر الخلق الذي عاينوا أثره ولم يشهدوا كيفيته، لأن أثره ينبىء عن عظيم كيفيته، وأنها أعظم مما يتصور في كيفية إعادة الأجسام البالية. والأَيْد القوة. وأصله جَمع يد، ثم كثر إطلاقه حتى صار اسماً للقوة، وتقدم عند قوله تعالىواذكر عبدنا داود ذا الأيد } في سورة ص 17. والمعنى بنيناها بقدرة لا يقدر أحد مثلها. وتقديم { السماء } على عامله للاهتمام به، ثم بسلوك طريقة الاشتغال زاده تقوية ليتعلق المفعول بفعله مرتين مرة بنفسه، ومرة بضميره، فإن الاشتغال في قوة تكرر الجملة. وزيد تأكيده بالتذييل بقوله { وإنا لمُوسِعون }. والواو اعتراضية. والمُوسِع اسم فاعل من أوسع، إذا كان ذا وُسع، أي قدرة. وتصاريفه جائية من السَّعة، وهي امتداد مساحة المكان ضد الضيق، واستعير معناها للوفرة في أشياء مثل الأفراد مثل عمومها فيورحمتي وسعت كل شيء } الأعراف 156، ووفرة المال مثللينفق ذو سعة من سعته } الطلاق 7، وقولهعلى الموسِع قدره } البقرة 236، وجاء في أسمائه تعالى الواسع { إن اللَّه واسع عليم }. وهو عند إجرائه على الذات يفيد كمال صفاته الذاتية الوجودِ، والحياة، والعلم، والقدرة، والحكمة، قال تعالىإن اللَّه واسع عليم } البقرة 115 ومنه قوله هنا { وإنا لموسعون }. وأكد الخبر بحرف إنّ لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر سعة قدرة الله تعالى، إذ أحالوا إعادة المخلوقات بعد بِلاها.