الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

جاءت الجملة مفصولة عن التي قبلها على طريقة المحاورات. وقد تقدّمت عند قوله تعالىقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة 30. والنّداء مع حضور المخاطب مستعمل في طلب إحضار الذهن اهتماماً بالغرض المخاطب فيه. و { بُنَيّ } ـــ بكسر الياء المشدّدة ـــ تصغير ابن مع إضافته إلى ياء المتكلم وأصله بُنَيْوي أو بُنَيْيي على الخلاف في أنّ لام ابن الملتزمَ عدمُ ظهورها هي واو أم ياء. وعلى كلا التقديرين فإنّها أدغمت فيها ياء التصغير بعد قلب الواو ياء لتقارب الياء والواو، أو لتمَاثلهما فصار بنَيّي. وقد اجتمع ثلاث ياءات فلزم حذف واحدة منها فحذفت ياء المتكلم لزوماً وألقيت الكسرة التي اجتلبت لأجلها على ياء التصغير دلالة على الياء المحذوفة. وحذفُ ياء المتكلم من المنادى المضاف شائع، وبخاصة إذا كان في إبقائها ثقل كما هنا، لأنّ التقاء ياءات ثلاث فيه ثقل. وهذا التّصغير كناية عن تحبيب وشفقة. نزل الكبير منزلة الصغير لأنّ شأن الصغير أن يحب ويشفق عليه. وفي ذلك كناية عن إمحاض النصح له. والقصّ حكاية الرؤيا. يقال قص الرؤيا إذا حكاها وأخبر بها. وهو جاءٍ من القصص كما علمت آنفاً. والرؤيا ـــ بألف التأنيث ـــ هي رؤية الصور في النوم، فرّقوا بينها وبين رؤية اليقظة باختلاف علامتي التأنيث، وهي بوزن البشرى والبقيَا. وقد علم يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ أن إخوة يوسف ـــ عليه السّلام ـــ العشرة كانوا يغارون منه لفرط فضله عليهم خَلقا وخلقا، وعلم أنّهم يعبرون الرؤيا إجمالاً وتفصيلاً، وعلم أن تلك الرؤيا تؤذن برفعة ينالها يوسف ـــ عليه السّلام ـــ على إخوته الذين هم أحدَ عَشَرَ فخشي إن قصّها يوسف ــــ عليه السلام ــــ عليهم أن تشتد بهم الغيرة إلى حدّ الحسد، وأن يعبّروها على وجهها فينشأ فيهم شرّ الحاسد إذا حسد، فيكيدوا له كيداً ليسلموا من تفوقّه عليهم وفضله فيهم. والكيد إخفاء عمل يضرّ المكيد. وتقدّم عند قوله تعالىوأُمْلِي لهم إن كيدي متين } في سورة الأعراف 183. واللاّم في { لك } لتأكيد صلة الفعل بمفعوله كقوله شكرت لك النعمى. وتنوين { كيداً } للتعظيم والتهويل زيادة في تحذيره من قص الرؤيا عليهم. وقصد يعقوب ـــ عليه السّلام ـــ من ذلك نجاة ابنه من أضرار تلحقه، وليس قصده إبطال ما دلّت عليه الرؤيا فإنّه يقع بعد أضرار ومشاق. وكان يعلم أن بنيه لم يبلغوا في العلم مبلغ غوص النظر المفضي إلى أن الرّؤيا إن كانت دالة على خير عظيم يناله فهي خبر إلهي، وهو لا يجوز عليه عدم المطابقة للواقع في المستقبل، بل لعلّهم يحسبونها من الإنذار بالأسباب الطبيعية التي يزول تسببها بتعطيل بعضها.

السابقالتالي
2