الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }

ولما كان هذا مما يستعظمه الناس في الدنيا، وكان عزها لا يعد في الحقيقة إلا إن كان موصولاً بنعيم الآخرة، نبه على ما له في الآخرة مما لا يعد هذا في جنبه شيئاً، فقال مؤكداً لتكذيب الكفرة بذلك: { ولأجر الآخرة خير } ولما كان سياق الأحكام على وجه عام لتعليقها بأوصاف يكون السياق مرغوباً فيها أو مرهباً منها أحسن وأبلغ، قال: { للذين آمنوا } أي أوجدوا هذا الوصف { وكانوا } أي بجبلاتهم { يتقون * } أي يوجدون الخوف من الله واتخاذ الوقايات منه إيجاداً مستمراً، وهو من أجلهم حظاً وأعلاهم كعباً - كما تقدم بيانه مما يدل على كمال إيمانه وتقواه.

ولما كان من المعلوم أن من هذه صفاته يقوم بما وليه أتم قيام وينظر فيه أحسن نظر، كان كأنه قيل: فجعله الملك على خزائن الأرض فدبرها بما أمره الله به وعلمه حتى صلح الأمر وجاء الخير وذهب الشر، وإنما طوى هذا للدلالة عليه بلوازمه من قصة إخوته التي هي المقصودة بالذات - كما سيأتي، وقد فهم من هذه القصة أن الغالب على طبع مصر الرداءة: بغض الغريب، واستذلال الضعيف، والخضوع للقوي، فإنهم أساؤوا إليه بالسجن بعد تحقق البراءة، ثم عفا عنهم وأحسن إليهم بما استبقى به مهجهم، ثم أعتقهم بعد أن استرقهم، ورد إليهم أموالهم بعد أن استأصلها بما عنده من الغلال، فجزوره على ذلك بأن استعبدوا أولاده وأولاد إخوته بعده وساموهم سوء العذاب، وأدل دليل على أن هذا طبع البلد أن بني إسرائيل لما خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام وخلصهم من جميع ذلك الذل وشرفهم بما شرفهم الله به من الآيات العظام والكتاب المبين، كانوا كل قليل ينكثون مجترئين على ما لا يطاق الاجتراء عليه، وإذا أمرهم عن الله بأمر جنبوا عنه - كما مضى ذلك عن التوراة في الأعراف والبقرة وغيرهما، فعاقبهم الله بالتيه، وكان يسميهم الجيل المعوج - لما علم من سوء طباعهم، حتى مات كل من نشأ بأرض مصر، ثم صار أولادهم يمتثلون الأوامر حتى ملكوا ما وعد الله به آباءهم من البلاد، وقد ذكر ذلك في زبور داود عليه الصلاة والسلام في غير موضع، منها في المزمور الرابع والتسعين: هلموا نسجد ونركع ونخضع أمام الرب خالقنا، لأنه إلهنا ونحن شعب رعيته، وضأن ماشيته، اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسو قلوبكم وتسخطوه كمثل السخط يوم التجربة في البرية حيث جربني آباؤكم، فأحصوا أعمالي ونظروها، أربعين سنة مقتُّ ذلك الجيل وقلت: هو شعب في كل حين يطغون بقلوبهم، فلم يعتدوا لسلبي كما أقسمت برجزي أنهم لا يدخلون راحتي. آباؤنا بمصر لم يفهموا عجائبك، ولم يذكروا كثرة رحمتك حين أغضوك وهم صاعدون من البحر الأحمر، فنجيتهم باسمك لتظهر عجائبك، زجر البحر الأحمر فجف، أجازهم في اللجج كأنهم في البر، خلصهم من أيدي الأعداء، وأنقذهم من أيدي المبغضين، وأطلق الماء على مبغضيهم فلم يبق منهم واحد، فآمنوا بكلامه، ومجدوا بسبحته.

السابقالتالي
2 3 4