لما نهى في الآية الأولى عن اتَّخَاذِ اليَهُود والنَّصَارى أوْلِيَاء، نهى هُنَا عن جَمِيع مُوالاَةِ الكُفَّار على العُمُوم، فـ " الَّذِين " وصلتُهُ هو المَفْعُولُ الأوّلِ لقوله " لا تتَّخِذُوا " ، والمفعُول الثاني: هو قوله " أوْلِيَاء " ، و " دِينُكُم " مَفْعُول لـ " اتَّخذُوا " ، و " هُزُواً " مفعول ثان، وتقدَّم ما في " هُزْءاً " من القِراءَات والاشْتِقَاق. قوله تعالى: { مِنَ الَّذِين أوتُوا } فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ، وصاحِبُها فيه وجهان: أحدها: أنَّهُ الموصول الأوَّل. والثاني: أنَّه فاعل " اتَّخَذُوا " والثاني من الوَجْهَيْن الأوَّلين: أنه بيانٌ للموصُول الأوَّل، فتكون " مِن " لِبَيَان الجِنْس. وقوله تعالى: " مِنْ قَبْلكم " متعلِّق بـ " أوتُوا "؛ لأنَّهم أوتُوا الكِتَاب قَبْلَ المُؤمِنين، والمُرَاد بالكِتَاب: الجِنْس. فصل قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - كان رِفاعة بن زَيْد بن التَّابُوت، وسُوَيْد بن الحَارِث قد أظهرا الإسْلام ثم نافَقَا، وكان رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمين يوادُّونَهُما، فأنْزل اللَّه - تعالى - هذه الآية، ومعنى تَلاَعُبِهم واستهْزَائِهِم، إظْهَار ذلك باللِّسَان مع الإصْرَارِ على الكُفْر في القَلْبِ، ونَظِيرُه قوله في ذَلِك في سُورة " البقرة ":{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } [آية:14] إلى قوله:{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [آية: 14]، والمعنى: أنَّ القَوْم لمَّا اتَّخَذُوا دينكُمْ هُزُواً ولَعِباً وسُخْرِية، فلا تتَّخِذُوهم أوْلِيَاء وأنْصَاراً وأحْبَاباً، فإن ذلك الأمْرَ خَارجٌ عن العَقْلِ والمرُوءَة. قوله تعالى: " والكُفَّار " قرأ أبُو عَمْرو والكِسَائي: " والكُفَّارِ " بالخَفْض، والباقُون بالنَّصْب، وهما واضِحَتَانِ، فَقِرَاءة الخَفْضِ عَطْفٌ على المَوْصُول المَجْرُور بـ " مِنْ " ، ومعناها: أنَّه نَهَاهم أن يتَّخِذُوا المُسْتَهْزِئين أوْلِيَاء، وبَيَّنَ أن المُسْتَهْزِئين صِنفان: أهلُ كتاب متقدِّم، وهم اليَهُود والنَّصارى، وكفارٌ عَبَدة أوْثَان، وإن كان اسم الكُفْر ينطلقُ على الفَرِيقين، إلا أنَّه غَلَبَ على عَبَدَةِ الأوْثان: الكُفَّار، وعلى اليهُود والنَّصارى: أهْل الكِتَاب. وقال تعالى:{ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } [البينة: 1]، وقال تعالى:{ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [البقرة: 105]، اتَّفقوا على جر " المُشْركين " عَطْفاً على أهْل الكِتَاب، ولم يَعْطف على العَامِل الرَّافع قاله الواحدي. يعني [بذلك]: أنَّه أطلق الكُفَّار على أهْلِ الكِتَاب، وعلى عبدةِ الأوْثَانِ المُشْرِكِين، ويدلُّ على أنَّ المُرَاد بالكُفَّار في آية المَائِدة " المُشْرِكُون " ، قراءة عبد الله " ومِنَ الَّذِين أشْرَكُوا " ورُجِّحت قراءة أبِي عَمْرو أيضاً بالقُرْب، فإن المَعْطُوف عليه قرِيب، ورُجِّحَتْ أيضاً بقراءة أبَيّ " وَمِنَ الكُفَّار " بالإتْيَان بـ " مِنْ ". وأما قراءة البَاقِين، فوَجْهُهَا أنَّه عطف على المَوْصُول الأوَّل، أي: لا تَتَّخذُوا المُسْتَهْزِئين، ولا الكُفَّار أوْلِيَاء، فهو كقوله تعالى:{ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 28]، إلاَّ أنه ليس في هذه القراءة تَعَرُّضٌ للإخْبَار باسْتِهْزَاء المُشْرِكين، وهم مُسْتَهْزِئُون أيْضاً، قال تعالى:{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } [الحجر: 95] فالمراد به: مُشْرِكو العرَب، ولوضوح قِرَاءة الجرِّ قال مَكي بن أبِي طالب: " ولولا اتِّفَاقُ الجماعةِ على النَّصْب، لاخترتُ الخَفْض لقوَّته في المَعْنى، ولِقُرْب المَعْطُوف من المَعْطُوف عليه ". ثم قال تعالى: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، والمعنى ظاهِر.