الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } * { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } * { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } * { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } * { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } * { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ }

قوله تعالى: { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } قيل: إن «لا» صلة، وجاز وقوعها في أوّل السورة لأن القرآن متصل بعضه ببعض، فهو في حكم كلام واحد ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى:وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 15] وجوابه في سورة أخرى:مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [القلم: 2] ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة قاله ٱبن عباس وٱبن جبير وأبو عبيدة ومثله قول الشاعر:
تذكَّرتُ لَيْلَى فاعترتنِي صَبَابَةٌ   فكاد صِمِيمُ القلبِ لا يَتَقَطَّعُ
وحكى أبو الليث السَّمرقنديّ: أجمع المفسرون أن معنى «لاَ أقْسِمُ»: أقسم. وٱختلفوا في تفسير «لا» قال بعضهم: «لا» زيادة في الكلام للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة «لا» كما قال في آية أخرى:قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] يعني أن تسجد، وقال بعضهم: «لا»: ردٌّ لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الأمر كما زعمتم. قلت: وهذا قول الفرّاء قال الفرّاء: وكثير من النحويين يقولون «لا» صلة، ولا يجوز أن يُبدأ بجحد ثم يُجعل صلة لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالردّ عليهم في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ وذلك كقولهم لا والله لا أفعل فـ «ـلا» ردٌّ لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحقّ، كأنك أكذبت قوماً أنكروه. وأنشد غير الفرّاء لامرىء القيس:
فلا وأبِيكِ ٱبنةَ العامِرِيِّ   لا يَدَّعِي القومُ أَنِّي أَفِرّ
وقال غُوَيَّة بن سلمى:
ألا نادتْ أمامةُ بٱحتمال   لتِحزُننِي فلا بِكِ ما أبالِي
وفائدتها توكيد القسم في الردّ. قال الفرّاء: وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ «لأَقِسمُ» بغير ألف كأنه لام تأكيد دخلت على أقسم، وهو صواب لأن العرب تقول: لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وٱبن كثير والزهريّ وٱبن هُرْمز { بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي بيوم يقوم الناس فيه لربّهم، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء. { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } لا خلاف في هذا بين القراء، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيماً لشأنه ولم يقسم بالنفس. وعلى قراءة ٱبن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية. وقيل: { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } ردّ آخر وٱبتداء قسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبيّ: والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً. ومعنى: «بالنَّفْسِ الَّلَّوامَةِ» أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردتُ بكذا؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه قاله ٱبن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يُرَى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردتُ بكلامي؟ ما أردتُ بأكلي؟ ما أردتُ بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه.

السابقالتالي
2 3