الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } * { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً }

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } الأبرار: أهل الصدق واحدهم بَرٌّ، وهو من ٱمتثل أمر الله تعالى. وقيل: البرّ الموحِّد والأبرار جمع بارّ مثل شاهد وأشهاد، وقيل: هو جمع بَرّ مثل نَهْر وأنهار وفي الصحاح: وجمع البر الأبرار، وجمع البار البَرَرة، وفلان يَبَرُّ خالقَه وَيَتَبَّرره أي يُطِيعه، والأم بَرّةٌ بولدها. وروى ٱبن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما سمّاهم الله جل ثناؤه الأبرار لأنهم بَرُّوا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقًّا كذلك لولدك عليك حقًّا " وقال الحسن: البَرّ الذي لا يؤذي الذَّرّ. وقال قتادة: الأبرار الذين يؤدّون حقّ الله ويوفون بالنَّذْر. وفي الحديث: " الأبرار الذين لا يؤذون أحداً " { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } أي من إناء فيه الشراب. قال ٱبن عباس: يريد الخمر. والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب: وإذا لم يكن فيه شراب لم يسمّ كأساً. قال عمرو بن كُلْثوم:
صَبنْتِ الكأسَ عَنَّا أُمَّ عَمرٍو   وكان الْكَأْسُ مَجْرَاها الْيَمِينَا
وقال الأصمعيّ: يقال صَبَنْتَ عنّا الهديةَ أو ما كان من معروف تَصبِنُ صَبْنا: بمعنى كَفَفْتَ قاله الجوهري. { كَانَ مِزَاجُهَا } أي شَوْبها وخلطها قال حسّان:
كَأَنَ سَبِيئةً مِن بيْتِ رَأَسٍ   يكونُ مِزَاجَها عَسلٌ وماءُ
ومنه مِزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة. { كَافُوراً } قال ٱبن عباس: هو ٱسم عين ماء في الجنة، يقال له عين الكافور. أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمّى كافوراً. وقال سعيد عن قتادة: تُمزَج لهم بالكافور وتُختَم بالمسك. وقاله مجاهد. وقال عِكرمة: مِزَاجها طعمها. وقيل: إنما الكافور في ريحها لا في طعمها. وقيل: أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبَرْده لأن الكافور لا يشرب كقوله تعالى:حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } [الكهف: 96] أي كنارٍ. وقال ٱبن كَيْسان: طُيِّب بالمسك والكافور والزنجيل. وقال مقاتل: ليس بكافور الدنيا. ولكن سمَّى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب. وقوله: { كَانَ مِزَاجُهَا } «كَانَ» زائدة أي من كأس مِزاجُها كافورٌ. { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } قال الفراء: إن الكافور ٱسم لعين ماء في الجنة فـ «ـعَيْناً» بدل من كافور على هذا. وقيل: بدل من كأس على الموضع. وقيل: هي حال من المضمر في «مِزاجها». وقيل: نصب على المدح كما يُذكَر الرّجلُ فتقول: العاقلَ اللبيبَ أي ذكرتم العاقلَ اللبيبَ فهو نصب بإضمار أعني. وقيل يشربون عيناً. وقال الزجاج: المعنى من عين. ويقال: كافور وقافور. والكافور أيضاً: وعاء طلع النخل وكذلك الكُفُرَّي قاله الأصمعيّ. وأما قول الراعي:
تَكْسُو الْمَفَارِقَ واللَّبَّاتِ ذَا أَرَجٍ   مِن قُصْبِ مُعْتَلِفِ الكافورِ دَرَّاجِ
فإنّ الظبي الذي يكون منه المسك إنما يَرْعي سُنْبَل الطِّيب فجعله كافوراً.

السابقالتالي
2