الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ }

اعلم أن قوله تعالى:إِذَا ٱلسَّمَاء ٱنشَقَّتْ } [الإنشقاق: 1] إلى قوله: { يا أيها الإنسان } شرط ولا بد له من جزاء واختلفوا فيه على وجوه أحدها: قال صاحب الكشاف: حذف جواب إذاً ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أدخل في التهويل وثانيها: قال الفراء: إنما ترك الجواب لأن هذا المعنى معروف قد تردد في القرآن معناه فعرف، ونظيره قوله:إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] ترك ذكر القرآن لأن التصريح به قد تقدم في سائر المواضع وثالثها: قال بعض المحققين: الجواب هو قوله: { فَمُلَـٰقِيهِ } وقوله: { يأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبّكَ كَدْحاً } [الإنشقاق: 6] معترض، وهو كقول القائل إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر، فكذا ههنا. والتقدير إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله ورابعها: أن المعنى محمول على التقديم والتأخير فكأنه قيل: يأيها الإنسـان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت وقامت القيامة وخامسها: قال الكسائي: إن الجواب في قوله:فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ } [الإنشقاق: 7] واعترض في الكلام قوله: { يأَيُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ } والمعنى إذا السماء انشقت، وكان كذا وكذا من أوتي كتـابه بيمينه فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا، ونظيره قوله تعالى:فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [البقرة: 38]، وسادسها: قال القاضي: إن الجواب ما دل عليه قوله: { إِنَّكَ كَادِحٌ } كأنه تعالى قال: يا أيها الإنسان ترى ما عملت فاكدح لذلك اليوم أيها الإنسان لتفوز بالنعيم أما قوله: { يا أيها الإنسان } ففيه قولان: الأول: أن المراد جنس الناس كما يقال: أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، فكذا ههنا. وكأنه خطاب خص به كل واحد من الناس، قال القفال: وهو أبلغ من العموم لأنه قائم مقام التخصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العام فإنه لا يكون كذلك والثاني: أن المراد منه رجل بعينه، وههنا فيه قولان: الأول: أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل وهو غير ضائع عنده الثاني: قال ابن عباس: هو أُبيّ بن خلف، وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء الرسول عليه السلام، والإصرار على الكفر، والأقرب أنه محمول على الجنس لأنه أكثر فائدة، ولأن قوله:فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } [الإنشقاق: 7]وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ } [الإنشقاق: 10] كالنوعين له، وذلك لا يتم إلا إذا كان جنساً، أما قوله: { إِنَّكَ كَادِحٌ } فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه، أما قوله: { إِلَىٰ رَبّكَ } ففيه ثلاثة أوجه أحدها: إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان، وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة، وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب، ولما كانت كلمة إلى لانتهاء الغاية، فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة، وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة، وذلك معقول، فإن نسبة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الدنيا إلى رحم الأم، فكما صح أن يقال: يا أيها الجنين إنك كادح إلى أن تنفصل من الرحم، فكان ما بعد الانفصال عن الرحم بالنسبة إلى ما قبله خالصاً عن الكدح والظلمة فنرجوا من فضل الله أن يكون الحال فيما بعد الموت كذلك وثانيهما: قال القفال: التقدير إنك كادح في دنياك كدحاً تصير به إلى ربك فبهذا التأويل حسن استعمال حرف إلى ههنا وثالثها: يحتمل أن يكون دخول إلى على معنى أن الكدح هو السعي، فكأنه قال: ساع بعملك { إِلَىٰ رَبّكَ } أما قوله تعالى: { فَمُلَـٰقِيهِ } ففيه قولان: الأول: قال الزجاج: فملاق ربك أي ملاق حكمه لا مفر لك منه، وقال آخرون: الضمير عائد إلى الكدح، إلا أن الكدح عمل وهو عرض لا يبقى فملاقاته ممتنعة، فوجب أن يكون المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويتأكد هذا التأويل بقوله بعد هذه الآية: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ }.