الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }

قوله تعالى: { كَمْ أَهْلَكْنَا }: يجوز في " كم " أن تكون استفهامية وخبرية، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلِّقةٌ للرؤية عن العمل، لأن الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في ذلك، ولذلك أُعْطِيت أحكامَها من وجوب التصدير وغيره. والرؤيةُ هنا عِلْميَّة، ويَضْعُفُ كونها بصرية، وعلى كلا التقديرين فهي معلَّقة عن العمل، لأنَّ البَصَرية تجري مجراها، فإن كانت عِلْميَّةً فـ " كم " وما في حيِّزها سادَّةٌ مَسدَّ مفعولين، وإن كانت بصرية فمسدَّ واحد.

و " كم " يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص فتكونَ معفولاً بها ناصبها " أَهْلَكْنا " و " مِنْ قَرْنٍ " على هذا تمييز لها، وأن تكون عبارةً عن المصدر فتنتصبَ انتصابَه بأهْلَكْنا، أي إهلاكاً، و " مِنْ قرن " على هذا صفةٌ لمفعول " أَهْلَكْنا " أي أهلكنا قوماً أو فوجاً من القرون؛ لأنَّ قرناً يراد به الجمع، و " مِنْ " تبعيضية، والأُولى لابتداء الغاية. وقال الحوفي: " من " الثانية بدل من " مِنْ " الأولى وهذا لا يُعْقل فهو وَهْمٌ بَيِّنٌ، ويجوز أن تكون " كم " عبارة عن الزمان فتنتصب على الظرف. قال أبو البقاء: " تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها " وجعل أبو البقاء على هذا الوجه " من قرن " هو المفعول به و " مِنْ " مزيدة فيه وجاز ذلك لأن الكلام غير موجب والمجرور نكرة. إلا أن الشيخ منع ذلك بأنه لا يقع إذ ذاك المفردُ موقعَ الجمع لو قلت: [ " كم أزماناً ضربتُ رجلاً، أو كم مرةً ضربتُ رجلاً " لم يكن مدلولُ رجل رجالاً]، لأن السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرات التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس [موضعَ زيادة " مِنْ " لأنها لا تُزاد في الاستفهام]، إلا وهو استفهام مَحْضٌ أو يكونُ بمعنى النفي، والاستفهام هنا ليس مَحْظَاً ولا مُراداً به النفيُ. [انتهى. والجواب عمَّا قاله: لا نُسَلِّم ذلك].

قوله: { مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } في موضع جر صفةً لـ " قَرْن " وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبار معناه، قاله أبو البقاء والحوفي، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ " مِنْ قرن " تمييز لـ " كم " فـ " كم " هي المحدِّث عنها بالإِهلاك، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتمكين لا ما بعدها، إذ " من قرن " يجري مجرى التبيين، ولم يُحَدَّثْ عنه. وجَوَّز الشيخ أن تكون هذه الجملة استنئافاً جواباً لسؤالٍ مقدَّر، قال كأنه قيل: ما كان من حالهم؟ فقيل: مكَّنَّاهم، وجعله هو الظاهر. وفي نظر، فإن النكرة مفتقرةٌ للصفة فَجَعْلُها صفةً أَلْيَق.

والفرق بين قوله { مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [وقوله]: " ما لم نمكِّن لكم " أنَّ " مَكَّنه في كذا ": أَثْبته فيها، ومنه:

السابقالتالي
2 3 4