الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً }

قوله: { عَيْناً } في نَصْبِها أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ " كافوراً " لأنَّ ماءَها في بياضِ الكافور، وفي رائحتِه وبَرْدِه. والثاني: أنَّها بدلٌ مِنْ محل " مِنْ كأسٍ " ، قاله مكي، ولم يُقَدِّرْ حَذْفَ مضافٍ. وقَدَّر الزمخشريُّ على هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ. قال: " كأنه قيل: يَشْرَبون خَمْراً خَمْرَ عَيْنٍ " وأمَّا أبو البقاءِ فجعل المضافَ مقدراًعلى وجهِ البدلِ مِنْ " كافوراً " فقال: " والثاني: بدلٌ مِنْ " كافوراً " ، أي: ماءَ عَيْنٍ أو خَمْرَ عَيْن " وهو معنىً حَسَنٌ. الثالث: أنَّها مفعولٌ بـ " يَشْرَبون " ، أي: يَشْرَبون عَيْناً مِنْ كأس. الرابع: أنَّ يَنْتصِبَ على الاختصاص. الخامس: بإضمارِ " يَشْربون " يُفَسِّرُه ما بعده، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهر أنه صفةٌ لعَيْن، فلا يَصِحُّ أَنْ يُفَسِّر. السادس: بإضمار " يُعْطَوْن ". السابع: على الحالِ من الضمير في " مِزاجُها " ، قاله مكي.

والمِزاج: ما يُمْزَجُ به، أي: يُخْلَطُ. يقال: مَزَجَه يَمْزُجه مَزْجاً، أي: خَلَطَهُ يَخلِطُه خَلْطاً. قال حسان:
4441ـ كأنَّ سَبِيْئَةً مِنْ بيتِ رَأْسٍ   يكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ
فالمِزاج كالقِوامِ، اسمٌ لما يقام به الشيءُ. والكافورُ: طِيْبٌ معروفٌ، وكأنَّ اشتقاقه من الكَفْرِ وهو السَّتْرُ؛ لأنه يُغَطِّي الأشياءَ برائحتِه. والكافور أيضاً: كِمام الشجرِ التي تُغَطِّي ثمرتَها. ومفعولُ " يَشْربون ": إمَّا محذوفٌ، أي: يعني: يَشْرَبون ماءً أو خمراً من كأسٍ، وإمَّا مذكورٌ وهو " عَيْناً " كما تقدَّم، وإمَّا " مِنْ كأسٍ " و " مِنْ " مزيدةٌ فيه، وهذا يَتَمشَّى عند الكوفيين والأخفش.

وقال الزمخشري: " فإنْ قلتَ: لِمَ وُصِل فِعْلُ الشُّرْب بحرفِ الابتداءِ أولاً وبحرف الإِلصاقِ آخراً؟ قلت: لأنَّ الكأسَ مبدأ شُرْبهِ وأولُ غايتِه، وأمَّا العَيْنُ فبها يَمْزُجون شرابَهم، فكأنَّ المعنى: يشْرَبُ عبادُ اللَّهِ بها الخمرَ كما تقول: شَرِبْتُ الماءَ بالعَسل ".

قوله: { يَشْرَبُ بِهَا } في الباءِ أوجهٌ، أحدُها: أنَّها مزيدةٌ، أي: يَشْرَبُها، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنُ أبي عبلةَ " يَشْرَبُها " مُعَدَّى إلى الضمير بنفسِه. الثاني: أنها بمعنى " مِنْ ". الثالث: أنها حاليةٌ، أي: مَمْزوجةٌ بها. الرابع: أنها متعلقَةٌ بـ " يَشْرَبُ ". والضميرُ يعودُعلى الكأس، أي: يَشْرَبون العَيْنَ بتلك الكأسِ، والباءُ للإِلصاق، كما تقدَّم في قولِ الزمخشري. الخامس: أنه على تَضْمين " يَشْرَبُون " معنى: يَلْتَذُّون بها شاربين. السادس: على تَضْمينِه معنى " يَرْوَى " ، أي يَرْوَى بها عبادُ اللَّهِ. وكهذه الآية في بعضِ الأوجهِ قولُ الهُذَلي:
4442ـ شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم تَرَفَّعَتْ   متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
فهذه تحتملُ الزيادةَ، وتحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى " مِنْ ". والجملةُ مِنْ قولِه " يَشْرَبُ بها " في محلِّ نصبٍ صفةٍ لـ " عَيْناً " إنْ جَعَلْنا الضميرَ في " بها " عائداً على " عَيْناً " ولم نجعَلْه مُفَسِّراً لناصبٍ، كما قاله أبو البقاء. وقرأ عبد الله " قافوراً " بالقاف بدلَ الكافِ، وهذا مِنْ التعاقُبِ بين الحرفَيْنِ كقولهم: " عربيٌّ قُحٌّ وكُحّ. و " يُفَجِّرونها " في موضع الحال.