الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }

{ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذٰلِكَ } لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم ببـيان أن مدارَ نقمِهم للدين إنما هو اشتمالُه على ما يوجب ارتضاءَه عندهم أيضاً وكفرُهم بما هو مُسلَّم لهم. أُمر عليه الصلاة والسلام عَقيبَه بأن يُبكتَهم ببـيان أن الحقيقَ بالنقم والعيبَ حقيقةً ما هم عليه من الدين المحرَّف ويَنْعىٰ عليهم في ضمن البـيان جناياتِهم وما حاق بهم من تبِعاتها وعقوباتِها على منهاج التعريض لئلا يحمِلَهم التصريحُ بذلك على ركوب متن المكابرةِ والعنادِ، ويخاطِبَهم قبل البـيانِ بما يُنبىء عن عِظَم شأن المبـيَّنِ، ويستدعي إقبالَهم على تلقّيه من الجملة الاستفهامية المُشَوِّقة إلى المخبِر به والتنبئةِ المُشعرة بكونه أمراً خطيراً لما أن النبأ هو الخبرُ الذي له شأنٌ وخطَرٌ، وحيث كان مناطُ النقم شَرِّيَّةَ المنقوم حقيقةً أو اعتقاداً وكان مجردُ النقم غيرَ مفيد لشَرِّيته البتّةَ، قيل: (بشرٍّ) من ذلك ولم يقُل: بأنقَمَ من ذلك تحقيقاً لشَرِّية ما سيُذكر وزيادةَ تقرير لها، وقيل: إنما قيل ذلك لوقوعه في عبارة المخاطَبـين حيث " أتى نفرٌ من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة والسلام: " أُومنُ بالله وما أنزل إلينا " إلى قوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } " فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا: لا نعلم شراً من دينكم، وإنما اعتَبَر الشَّرِّيةَ بالنسبة إلى الدين وهو منزَّه عن شائبةِ الشرّية بالكلية مجاراةً معهم على زعمهم الباطِلِ المنعقدِ على كمال شريتِه ليثبِتَ أن دينهم شرٌ من كل شر، أي هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شراً، وإن كان في نفسه خيراً محضاً { مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ } أي جزاءً ثابتاً في حكمه، وقرىء (مثوبةً) وهي لغة فيها كمشورة ومشورة وهي مختصةٌ بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر، وإنما وضعت هٰهنا موضعها على طريقة قوله: [الوافر]
[وخَيْلٌ قد دَلَفْتُ لها بخَيْلٍ]   تحيةُ بـينِهم ضَرْبٌ وجيعُ
ونصبُها على التميـيز من (بشرّ) وقوله عز وجل: { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } خبر لمبتدأ محذوفٍ بتقدير مضافٍ قبله مناسبٍ لما أشير إليه بكلمة ذلك أي: دينُ مَنْ لعنه الخ، أو بتقدير مضافٍ قبلها مناسبٍ لمن، أي بشرّ مِنْ أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من الجملة الاستفهامية إما على حالها وهو الظاهرُ المناسب لسياق النظم الكريم، وإما باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شرٌّ من ذلك؟ فقيل: هو دينُ مَنْ لعنه الله الخ، أو قيل في السؤال: من ذا الذي هو شرٌّ من أهل ذلك؟ فقيل: هو مَنْ لعنه الله، ووضع الاسمِ الجليلِ موضع الضمير لتربـية المهابةِ وإدخالِ الروعة وتهويلِ أمر اللعن وما تبعه، والموصولُ عبارةٌ عن المخاطبـين حيث أبعدهم الله تعالى من رحمته وسخِط عليهم بكفرهم وانْهماكِهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسُنوحِ البـينات.

السابقالتالي
2