الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ }

و { أَمْ } في قوله تعالى: { أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ } منقطعة لا متصلة كالسابقة، وبل المقدرة على القراءة الأولى - وهي قراءة الحسن وقتادة وعاصم وأبـي عمرو - للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضاً إلى التصريح به خطاباً على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد، وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية، والهمزة لحملهم على الإقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الإقرار به، و(من) مبتدأ خبره محذوف مع (أم) المعادلة للهمزة تعويلاً على ما سبق في الاستفهام الأول خلا - أن تشركون - المقدر هٰهنا بتاء الخطاب على القراءتين معاً، وهكذا في المواضع الأربعة الآتية، والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما { وَأَنزَلَ لَكُمْ } التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأولى لتشديد التبكيت والإلزام، واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم { مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء } أي نوعاً منه وهو المطر { فَأَنبَتْنَا بِهِ } بمقتضى الحكمة لا أن الإنبات موقوف عليه عقلاً، وقيل: أي أنبتنا عنده { حَدَائِقَ } جمع حديقة وهي كما في «البحر» البستان سواء أحاط به جدار أم لا، وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق لابن الأزرق بالبساتين ولم يقيد، وقال الزمخشري: هي البستان عليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة، وهو مروي عن الضحاك، وقال الراغب: هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، ولعل الأظهر ما في «البحر» وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الإحداق وتنظر إليها { ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر.

{ مَّا كَانَ لَكُمْ } أي ما صح وما أمكن لكم { أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } فضلاً عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون، وتقدير الخبر هكذا هو ما اختاره الزمخشري وتبعه غيره. وقال ابن عطية: يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا في المعنى، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب «اللوامح» له: ولا بد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، والتقدير أم من خلق السماوات والأرض كمن لم يخلق، وكذلك يقدر في أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى:أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [النحل: 17] انتهى، ولعل الأولى ما اختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد.

وقرأ الأعمش { أمن } بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام، و(من) بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مراراً من التشويق إلى المؤخر، والالتفات إلى التكلم بنون العظمة لتأكيد اختصاص الفعل بحكم المقابلة بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع مالها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده عز وجل، ورشح ذلك بقوله تعالى: { مَّا كَانَ لَكُمْ } الخ سواء كان صفة لحدائق أو حالاً / أو استئنافاً، وتوحيد وصفها السابق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، وهذا شائع في جمع التسكير كقوله تعالى:

السابقالتالي
2