الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

هذا إلزام آخر لهم بإبطال شركهم وافتضاح تناقضهم فإنهم كانوا معترفين بأن الرازق هو الله تعالى { قل مَن يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار } إلى قولهفسيقولون الله فقل أفلا تتقون } في سورة يونس 31. وإنما جاء أسلوب هذا الاستدلال مخالفاً لأسلوب الذي قبله والذي بعده فعدل عن تركيبولئن سألتهم } العنكبوت 61 تفنناً في الأساليب لتجديد نشاط السامع. وأدمج في الاستدلال على انفراده تعالى بالرزق التذكير بأنه تعالى يرزق عباده على حسب مشيئته دليلاً على أنه المختار في تصرفه وليس ذلك على مقادير حاجاتهم ولا على ما يبدو من الانتفاع بما يُرزقونه. وبسط الرزق إكثاره، وقَدْره تقليله وتقتيره. والمقصود أنه الرازق لأحوال الرزق، وقد تقدم في قوله تعالىالله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } في سورة الرعد 26. فجاءت هذه الاية على وزان قوله في سورة الروم 37أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } فجمع بين ضمير المشركين في أولها وبين كون الآيات للمؤمنين في آخرها. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله { الله يبسط الرزق } لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يبسط الرزق ويقدر. والتعبير بالمضارع لإفادة تجدد البسط والقدر. وزيادة { له } بعد { ويقدر } في هذه الآية دون آية سورة الرعد وآية سورة القصص للتعريض بتبصير المؤمنين الذين ابتلوا في أموالهم من اعتداء المشركين عليها كما أشار إليه قوله آنفاًوكأين من دابة لا تحمل رزقها } العنكبوت 60 بأن ذلك القَدْر في الرزق هو لهم لا عليهم لما ينجر لهم منه من الثواب ورفع الدرجات، فغُلّب في هذا الغرض جانب المؤمنين ولهذا لم يُعدّ { يقدر } بحرف على كما هو مقتضى معنى القدر كما في قوله تعالىومن قُدِر عليه رزقُه فلينفقْ مما آتاه الله } الطلاق 7. وقال بعض المفسرين إن المشركين عيروا المسلمين بالففقر، وقيل إن بعض المسلمين قالوا إن هاجرنا لم نجد ما ننفق. والضمير المجرور باللام عائد إلى من يشاء من عباده باعتبار أن من يشاء عام ليس بشخص معين لا سيما وقد بيّن عمومه بقوله { من عباده }. والمعنى أنه يبسط الرزق لفريق ويقدر لفريق. والتذييل بقوله { إن الله بكل شيء عليم } لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يطلع عليها الناس، وأن الله يعلم صبر الصابرين وجزع الجازعين كما تقدم في قوله في أول السورةفليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } العنكبوت 3، قال تعالىلَتُبلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تَصْبِروا وتتقوا فإِنَّ ذلك من عزم الأمور } آل عمران 186.