الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ }

قوله: { ٱدَّارَكَ }: قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو ونافع " أَدْرَكَ " كأَكْرم. والباقون من السبعةِ " ادَّارك " بهمزةِ وَصْلٍ، وتشديدِ الدالِ المفتوحةِ، بعدها ألفٌ. والأصلُ: تَدارك وبه قرأ اُبَيٌّ، فأُريد إدغامُ التاءِ في الدالِ فأُبْدِلَتْ دالاً، وسُكِّنَتْ فتعذَّر الابتداءُ بها لسكونهِا، فاجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار ادَّارك كما ترىٰ، وتحقيقُ هذه قد تقدَّم في رأسِ الحزبِ من البقرة:فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [البقرة: 72]. وقراءةُ ابنِ كثير قيل: تَحْتمل أن يكونَ أَفْعَلُ فيها بمعنى تَفاعَلَ فتَتََّحِدَ القراءتان. وقيل: أَدْرَكَ بمعنى بَلَغَ وانتهىٰ. وقرأ سليمان وعطاء ابنا يَسار " بلَ ادَّرَكَ " بفتحِ لامِ " بل " وتشديد الدالِ دونَ ألفٍ بعدَها. وتخريجُها: أنَّ الأصلَ ادَّرك على وزن افْتَعَل فأُبْدِلَتْ تاءُ الافتعالِ دالاً لوقوعِها بعد الدال. قال الشيخ: " فصار فيه قَلْبُ الثاني للأولِ كقولِهم: اثَّرَدَ، وأصلُه اثْتَرَدَ من الثَّرْدِ ". انتهىٰ. قلت: ليس هذا مما قُلِب فيه الثاني للأولِ لأجلِ الإِدغام كـ اثَّرَدَ في اثْتَرَدَ؛ لأنَّ تاءَ الافتعال تُبدَلُ دالاً بعد أحرفٍ منها الدالُ نحو: ادَّان في افْتَعَل من الدَّيْن فالإِبدالُ لأجلِ كونِ الدالِ فاءً لا للإِدغام، فليس مثلَ اثَّرَدَ في شيءٍ فتأمَّلْه فإنه حَسَنٌ. فلمَّا أُدْغِمَت الدالُ في الدال أُدْخِلَتْ همزةُ الاستفهامِ فسقَطَتْ همزةُ الوصلِ فصار اللفظُ " أَدْرَكَ " بهمزةِ قطعٍ مفتوحةٍ، ثم نُقِلَتْ حركةُ هذه الهمزةِ إلى لامِ " بل " فصار اللفظ: " بَلَ دَّرَكَ ".

وقرأ أبو رجاءٍ وشيبةٌ والأعمشُ والأعرجُ وابنُ عباس، وتُرْوىٰ عن عاصم كذلك، إلاَّ أنَّه بكسرِ لام " بل " على أصلِ التقاءِ الساكنين، فإنهم لم يَأْتوا بهمزةِ استفهامٍ.

وقرأ عبد الله وابن عباس والحسن وابن محيصن " أادْرَكَ " بهمزةٍ ثم ألفٍ بعدَها. وأصلُها همزتان أُبْدِلَتْ ثانيتُهما ألفاً تخفيفاً. وأنكرها أبو عمرٍو. قلت: وقد تقدَّم أولَ البقرةِ أنه قُرىءُ " أَانْذَرْتَهم " بألفٍ صريحةٍ فلهذه بها أسوةٌ. وقال أبو حاتم: " لا يجوزُ الاستفهامُ بعد " بل " لأنَّ " بل " إيجاب، والاستفهامُ في هذا الموضعِ إنكارٌ بمعنى: لم يكن، كقولِه تعالىأَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } [الزخرف: 19] أي: لَم يَشْهدوا، فلا يَصِحُّ وقوعُهما معاً للتنافي الذي بين الإِيجاب والإِنكارِ ". قلت: وفي منع هذا نظرٌ؛ لأنَّ " بل " لإِضرابِ الانتقالِ، فقد أضربَ عن الكلامِ الأولِ، وأَخَذَ في استفهامِ ثانٍ. وكيف يُنْكَرُ هذا والنَّحْويون يُقَدِّرون " أم " المنقطعةَ بـ بل والهمزة؟ وعجِبْتُ من الشيخِ كيف قال هنا: " وقد أجاز بعضُ المتأخرين الاستفهامَ بعد " بل " وشبهه؟ يقول القائل: " أخبزاً أكلْتَ، بل أماءً شرِبْتَ " على تَرْكِ الكلامِ الأولِ والأَخْذِ في الثاني ".

السابقالتالي
2