الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } أمر الرسول بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة الفاسقين ولا يخشى مكروههم فقال { بَلَغَ } أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم، فإن الله يعصمك من كيدهم ويصونك من مكرهم. وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني واليهود والنصارى وقريش يخوفوني، فلما أنزل الله هذه الآية زال الخوف بالكلية " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أيام إقامته بمكة يجاهر ببعض القرآن ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه، فلما أعز الله الإسلام وأيده بالمؤمنين قال له: { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } أي لا تراقبن أحداً، ولا تترك شيئاً مما أنزل إليك خوفاً من أن ينالك مكروه. ثم قال تعالى: { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع { رسالاته } في هذه الآية وفي الأنعامحَيْثُ يَجْعَلُ رسالتَه } [الأنعام: 124] على الجمع، وفي الأعرافبِرِسَـٰلَـٰتِي } [الأعراف: 144] على الواحد، وقرأ حفص عن عاصم على الضد، ففي المائدة والأنعام على الواحد، وفي الأعراف على الجمع، وقرأ ابن كثير في الجميع على الواحد، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم كله على الجمع. حجة من جمع أن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام مختلفة في الشريعة، وكل آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فهي رسالة، فحسن لفظ الجمع، وأما من أفرد فقال: القرآن كله رسالة واحدة، وأيضاً فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقولهوَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } [الفرقان: 14] فوقع الاسم الواحد على الجمع، وكذا ههنا لفظ الرسالة وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع. المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إن قوله { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } معناه فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته، فأي فائدة في هذا الكلام؟ أجاب جمهور المفسرين بأن المراد: أنك إن لم تبلغ واحداً منها كنت كمن لم يبلغ شيئاً منها، وهذا الجواب عندي ضعيف، لأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل: إنه ترك الكل لكان كذباً ولو قيل أيضاً: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل مقدار الجرم في ترك الكل فهو أيضاً محال ممتنع، فسقط هذا الجواب. والأصح عندي أن يقال: إن هذا خرج على قانون قوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري   
ومعناه أن شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة إلى حيث متى قيل فيه: إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها، فهذا الكلام يفيد المبالغة التامة من هذا الوجه، فكذا ههنا: فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته ما يعني أنه لا يمكن أن يوصف ترك التبليغ بتهديد أعظم من أنه ترك التبليغ، فكان ذلك تنبيهاً على غاية التهديد والوعيد والله أعلم.

السابقالتالي
2 3