الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: { يَـۤأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ }: ناداه بأشرفِ الصفات البشرية. وقوله: { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } وهو قد بَلَّغَ!! فأجاب الزمخشري بأن المعنى: جميعَ ما أُنْزل إليك، أي: أيَّ شيء أُنْزل غيرَ مراقِبٍ في تبليغه أحداً ولا خائفٍ أن ينالكَ مكروهٌ " وأجاب ابن عطية بقريب منه، قال: " أَمَر رسولَه بالتبليغِ على الاستيفاء والكمال، لأنه كان قد بلَّغ " ، وأجابَ غيرُهما بأنَّ المعنى على الديمومة كقوله:يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 1]يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [النساء: 136]، وإنما ذكرْتُ هذا لأنه ينفعُ في سؤالٍ سيأتي.

وقوله: { ما } يحتملُ أن تكونَ اسميةً بمعنى الذي، ولا يجوز أن تكون موصوفةً لأنه مأمورٌ بتبليغِ الجميع كما مَرَّ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك فإن تقديرها: " بَلِّغْ شيئاً أُنزل إليك " وفي " أُنزل " ضمير مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقامَ الفاعل، وتحتمل على بُعْدٍ أن تكون " ما " مصدريةً، وعلى هذا فلا ضميرَ في " أُنْزل " لأنَّ " ما " المصدريةَ حرفٌ على الصحيح فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ وهو الجارُّ بعده، وعلى هذا فيكونُ التقديرُ: بَلِّغِ الإِنزالَ، ولكنَّ الإِنزال لا يُبَلِّغُ فإنه معنى، إلا أن يُراد بالمصدر أنه واقعٌ موقعَ المفعول به، ويجوز أن يكونَ المعنى: " اعلَمْ بتبليغِ الإِنزالِ " فيكونُ مصدراً على بابه.

قوله تعالى: { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي: وإنْ لم تفعل التبليغَ، فحذَف المفعولَ به ولم يقل: " وإن لم تبلِّغْ فما بَلَّغت " لِما تقدم في قوله تعالى:فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } [الآية: 24] في البقرة، والجوابُ لا بد أن يكون مغايراً للشرط لتحصُل الفائدةُ، ومتى اتَّحدا اختلَّ الكلام، لو قلت: " إن أتى زيد فقد جاء " لم يَجُزْ، وظاهرُ قوله تعالى: { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ } اتحادُ الشرطِ والجزاء، فإن المعنى يَؤُول ظاهراً إلى: وإن لم تفعل لم تفعلْ. وأجابَ الناس عن ذلك بأجوبةٍ أسَدُّها ما قاله الأستاذ أبو القاسم الزمخشري، وقد أجابَ بجوابين، أحدُهما: أنه إذا لم يمتثل أمرَ اللّهِ في تبليغِ الرسالاتِ وكَتْمِها كلِّها كأنه لم يُبْعَثْ رسولاً كان أمراً شنيعاً لاخفاءَ بشناعته، فقيل: إنْ لم تبلغ أدنى شيء وإن كلمةً واحدةً فكنت كمن ركب الأمرَ الشنيع الذي هو كتمانُ كلِّها، كما عَظَّم قَتْل النفسِ في قوله:فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } [المائدة: 32]. والثاني: أَنْ يُراد: وإنْ لم تفعلْ ذلك فلك ما يُوجِبُ كتمانَ الوحي كلِّه من العقاب فوضَع السببَ موضعَ المُسَبِّب، ويؤيده: " فأوحى الله إليَّ إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عَذَّبْتُك ".

وأجاب ابن عطية فقال: " أي: وإن تركت شيئاً فقد تركت الكل وصار ما بَلَّغْت غيرَ معتد به، فمعنى " وإن لم تفعل ": " وإن لم تستوفِ " نحوُ هذا قولُ الشاعر:

السابقالتالي
2 3