الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

لما جرى الكلام على أن الله تعالى خلق كل شيء وأن له مقاليد السماوات والأرض وهو مُلك عوالم الدنيا، وذيل ذلك بأن الذين كفروا بدليل الوحدانية هم الخاسرون، وانتقلَ الكلام هنا إلى عظمة مُلك الله تعالى في العالم الأخروي الأبدي، وأن الذين كفروا بآيات الله الدالة على ملكوت الدنيا قد خسروا بترك النظر، فلو اطلعوا على عظيم ملك الله في الآخرة لقدّروه حقّ قدره فتكون الواو عاطفة جملة { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } على جملةله مقاليد السموات والأرض } الزمر 63 ويكون قوله { وما قدروا الله } الخ معترضاً بين الجملتين، اقتضاها التناسب مع جملةوالذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } الزمر 63.ويجوز أن تكون معطوفة على جملةالله خالق كل شيء } الزمر 62 فتكون جملة { وما قدروا الله حق قدره } وجملة { والأرض جميعاً قبضته } كلتاهما معطوفتين على جملةالله خالق كل شيء } الزمر 62. والمعنى هو هو، إلا أن الحال أوضح إفصاحاً عنه.ويجوز أن تكون جملة { والأرض جميعاً قبضته } عطفَ غرض على غرض انتُقل به إلى وصف يوم القيامة وأحوال الفريقين فيه، وجملة { وما قدروا الله حق قدره } اعتراضاً، وهو تمثيل لحال الجاهل بعظمة شيء بحال من لم يحقق مقدار صُبرة فنقصها عن مقدارها، فصار معنى { ما قدروا الله } ما عرفوا عظمته حيث لم ينزهوه عما لا يليق بجلاله من الشريك في إلٰهيته. و { حقَّ قدره } من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي ما قدروا الله قدرَه الحقَّ، فانتصب { حَقَّ } على النيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع، وتقدم نظير هذا في سورة الأنعام.وجميع أصله اسم مفعول مثل قتيل، قال لبيد
عريت وكان بها الجَميع فأبكروا منها وغودر نؤيها وثمامها   
وبذلك استعمل توكيداً مثلَ كلّ و أَجمَع قال تعالىيوم يبعثهم اللَّه جميعاً } في سورة المجادلة 6. وقد وقع { جميعاً } هنا حالاً من { الأرض } واسم { الأرض } مؤنث فكان تجريد جميع من علامة التأنيث جرياً على الوجه الغالب في جريان فعيل بمعنى مفعول على موصوفه، وقد تلحقه علامة التأنيث كقول امرىء القيس
فلو أنها نفس تموت جميعةٌ ولكنها نفس تَسَاقَطُ أنفسا   
وانتصب { جميعاً } هنا على الحال من { الأرض } وتقدم نظيره آنفاً في قولهقل لله الشفاعة جميعاً } الزمر 44. والقبضة بفتح القاف المرّة من القَبْض، وتقدم في قولهفقبضت قبضة من أثر الرسول } في سورة طه 96. والإِخبار عن الأرض بهذا المصدر الذي هو بمعنى المفعول كالخَلق بمعنى المخلوق للمبالغة في الاتصاف بالمعنى المصدري وإنما صيغ لها وزن المرة تحقيراً لها في جانب عظمة ملك الله تعالى، وإنما لم يُجَأْ بها مضمومة القاف بمعنى الشيء المقبوض لئلا تفوت المبالغة في الاتصاف ولا الدلالة على التحقير فالقَبضة مستعارة للتناول استعارة تصريحية، والقبضة تدل على تمام التمكن من المقبوض وأن المقبوض لا تصرّف له ولا تحرّك.

السابقالتالي
2 3