الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

قرأ الجمهور: " والصَّابئُونَ " بالواو، وكذلك هو في مصاحِفِ الأمْصَار، وفي رفعه تسعة أوجه:

أحدها: وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة: الخليل وسيبويه وأتباعهما أنه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ؛ لدلالةِ خبر الأول عليه، والنيةُ به التأخيرُ، والتقديرُ: إنَّ الذينَ آمَنُوا والذينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ منهم إلى آخره والصَّابِئُونَ كذلك، ونحوه: " إنَّ زَيْداً وعمرٌو قائمٌ " ، [أي: إنَّ زَيْداً قائِم وعمرٌو قائمٌ]، فإذا فعَلْنا ذلك، فهل الحذفُ من الأول أي: [يكونُ] خبرُ الثاني مثبتاً، والتقديرُ: إنَّ زَيْداً قائِمٌ وعمرٌو قائمٌ، فحذف " قائمٌ " الأول، أو بالعكس؟ قولان مشهوران، وقد وَرَد كلٌّ منهما؛ قال: [المنسرح]
2009- نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأنْتَ بِمَا   عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ
أي: نحنُ راضُونَ، وعكْسُه قوله: [الطويل]
2010- فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمدِينَةِ رَحْلُهُ   فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
التقدير: وقيارٌ بها كذلِكَ، فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً؟ فالجوابُ: أنه يلزم من ذلك دخولُ اللامِ في خَبَر المبتدأ غيرِ المَنْسُوخِ بـ " إنَّ " ، وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضَرُورة شِعْرٍ، فالآيةُ يجوزُ فيها هذان التقديران على هذا التخْريج، قال الزمخشريُّ: " والصَّابئُونَ: رفعٌ على الابتداء، وخبرُه محذوفٌ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز " إنَّ " من اسمها وخبرها؛ كأنه قيل: إنَّ الذين آمَنُوا والذينَ هَادُوا والنَّصارى حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ والصَّابِئُونَ كذلكِ؛ وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك: [الوافر]
2011- وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ   بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ
أي: فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنْتُمْ كذلك " ثم قال بعد كلامٍ: " فإنْ قلْتَ: فقوله " والصَّابئُونَ " معطوفٌ لا بدَّ له من معطوفٍ عليه، فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله: { إنَّ الذِين آمَنُوا } إلى آخره، ولا محلَّ لها؛ كما لا محلَّ للتي عطفتْ عليها، فإن قلتَ: فالتقديمُ والتأخيرُ لا يكون إلا لفائدةً، فما هي؟ قلتُ: فائدتُه التنبيهُ على أن الصابئين يُتابُ عليهم، إنْ صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالحُ، فما الظنُّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاءِ المعدُودِينَ ضَلاَلاً وأشدُّهم عِتِيًّا، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَئُوا عن الأديان كلِّها، أي: خَرَجُوا؛ كما أن الشاعر قدَّمَ قوله: " وأنْتُمْ "؛ تنبيهاً على أن المخاطبينَ أوغلُ في الوصْفِ بالبغْيِ من قومِه، حيثُ عاجلَ به قبل الخبر الذي هو " بُغاةٌ "؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغيِ قبلهم مع كونهم أوغلَ فيه منهم وأثبتَ قدماً، فإن قُلْتَ: فلو قيل: " والصَّابئينَ وإيَّاكُمْ " ، لكان التقديمُ حاصلاً، قلت: لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء؛ لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه، وإنما يُقال مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ للمُزَالِ لا للقارِّ في مكانه، وتجْرِي هذه الجملة مَجْرَى الاعتراض ".

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8