الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

ولما كان هذا الإخبار عن إحاطة علمه وشمول قدرته مع أنه بديهي التصور - يحتاج عند من جره الهوى إلى الشرك المقتضي للنقص إلى دليل معه فقد كان العرب ينكرون أن يسع الناس كلهم إله واحد، قال تعالى دالاًّ على ذلك بدليل شهودي ليفيد الإنسان بما يراه من المحسوسات، قاصراً الخطاب على أعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره: { ألم تر } أي تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين { أن الله } أي الذي له صفات الكمال كلها { يعلم ما في السماوات } كلها. ولما كان الخطاب لأعلى الخلق، وكان المقام لإحاطة العلم، وكان خطابه صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة للسامعين إلى وعورة هذا المقام وأنه بحيث لا يكاد يتصوره ولا يفهمه حق فهمه إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن ألحق به ممن صفا فهمه وسوى ذهنه وانخلع من الهوى والعوائق، جمع وأكد بإعادة الموصول، فإفراده صلى الله عليه وسلم بالخطاب بعد أن كان مع المظاهرين ثم المحادين إشارة إلى التعظيم وتأكيده تنبيه على صعوبة المقام بالتعميم ليرعى حق الرعي توفية بحق التعليم كما رعته الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قولها (سبحان من وسع سمعه الأصوات) يعني في سماعه مجادلة المرأة وهو في غاية الخفاء فقال تعالى: { وما في الأرض } أي كليات ذلك وجزئياته، لا يغيب عنه شيء منه، بدليل أن تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من يشاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك، القاصية والدانية، الحاضرة والغائبة، الماضية والآتية، فيكون كما أخبر.

ولما كان ذلك وإن كان معلوماً يتعذر إحاطة الإنسان بكل جزئي منه، دل عليه بما هو أقرب منه فقال: { ما تكون } بالفوقانية في قراءة أبي جعفر لتأنيث النجوى إشارة إلى العلم بها ولو ضعفت إلى أعظم حد، وقرأ الباقون بالتحتانية للحائل، ولأن التأنيث غير حقيقي، وهي على كل حال من " كان " التامة، وعمم النفي بقوله: { من نجوى } أي تناجي متناجين، جعلوا نجوى مبالغة، والنجوى: السر والمسارون، اسم ومصدر - قاله في القاموس، وقال عبد الحق في الواعي: النجوى الكلام بين الاثنين كالسر والتشاور - انتهى. وأصله من النجوى - للمرتفع من الأرض، والنجو: الخلوص والقطع وكشط الجلد والحدث والكشف، لأن المسارر يرفع ما كان في ضميره إلى صاحبه ويخلصه بمساررته له ويقطعه من ضميره ويكشطه منه ويحدثه ويكشفه.

ولما كانت النجوى لا تكمل إلا بثالث يحفظ الأنس بإدامة الاجتماع لأن الاثنين ينفردان عند عروض حاجة لأحجهما ويكونان في التناجي والتشاور كالمتنازعين، والثالث وسط بينهما مع أنه سبحانه وتر يحب الوتر، والثلاثة أول أوتار العدد، كما كان حافظاً لها في أزل الأزل قال: { ثلاثة } أي في حال من الأحوال { إلا هو رابعهم } أي مصيرهم أربعة، فهو اسم فاعل والمعنى بعلمه وقدرته كما يكون كل من المتناجين عالماً بنجوى البعض، فروح النجوى العلم بالسر.

السابقالتالي
2 3