الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ }

عطف على جملةكذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله } الشورى 3 الخ باعتبار المغايرة بين المعطوفة والمعطوف عليها بما في المعطوفة من كون المُوحَى به قرآناً عربيّاً، وما في المعطوف عليها من كونه من نوع ما أوحي به إلى الذين من قبله. والقول في { وكذلك أوحينا } كالقول فيكذلك يوحِي إليك } الشورى 3.وإنّما أعيد { وكذلك أوحينا } ليبنى عليه { قرآناً عربياً } لِما حجز بينهما من الفصل وأصل النظم كذلك يوحي إليك الله العزيز الحكيم قرآناً عربياً مع ما حصل بتلك الإعادة من التأكيد لتقرير ذلك المعنى أفضل تقرير.والعدول عن ضمير الغائب إلى ضمير العظمة التفات. وفي هذا إشارة إلى أنه لا فرق بين ما أوحي إليك وما أوحي إلى مَن قبلك، إلا اختلاف اللّغات كما قال تعالىوما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } إبراهيم 4.والقرآن مصدر قرأ، مثل غُفران وسُبحان، وأطلق هنا على المقروء مبالغة في الاتصاف بالمقروئية لكثرة ما يقرأه القارئون وذلك لحسنه وفائدته، فقد تضمن هذا الاسم معنى الكمال بين المقروءات. و { عربياً } نسبة إلى العربية، أي لغة العرب لأنّ كونه قرآناً يدلّ على أنه كلام، فوصفه بكونه { عربياً } يفيد أنه كلام عربي.وقوله { لتنذر أم القرى ومن حولها } تعليل لــ { أوحينا إليك قرآناً عربياً } لأن كونه عربيّاً يليق بحال المنذَرين به وهم أهل مكّة ومَن حولها، فأولئك هم المخاطبون بالدِّين ابتداء لما اقتضته الحكمة الإلٰهية من اختيار الأمة العربية لتكون أوّل من يتلقّى الإسلام وينشره بين الأمم، ولو روعي فيه جميع الأمم المخاطبين بدعوة الإسلام لاقتضى أن ينزل بلغات لا تُحصى، فلا جرم اختار الله له أفضل اللّغات واختار إنزاله على أفضل البشر.و { أم القرى } مكّة، وكنيت أم القرى لأنها أقدم المدن العربية فدعاها العرب أم القرى، لأن الأم تطلق على أصل الشيء مثل أم الرأس، وعلى مرجعه مثل قولهم للراية أم الحرب، وقولهم أم الطريق، للطريق العظيم الذي حوله طرق صغار. ثم إن إنذار أم القرى يقتضي إنذار بقية القُرى بالأحرى، قال تعالىوما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً } القصص 59، وتقدم في قوله تعالى { ولتنذر أم القرى } في سورة الأنعام 92.والمراد لتنذر أهلَ أمّ القُرى، فأطلق اسم البلد على سكانه كقوله تعالىواسألْ القريةَ } يوسف 82. وأهل مكّة هم قريش، وأما من حولها فهم النازلون حولها من القبائل مثل خُزاعة وكنانة، ومن الذين حولها قريشٌ الظواهر وهم الساكنون خارج مكة في جبالها.والاقتصار على إنذار أمّ القُرى ومن حولها لا يقتضي تخصيص إنذار الرّسول صلى الله عليه وسلم بأهل مكة ومَن حولها، ولا تخصيص الرّسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار دون التبشير للمؤمنين لأن تعليل الفعل بعلة باعثه لا يقتضي أن الفعل المعلّل مخصص بتلك العلّة ولا بمتعلِّقاتها إذ قد يكون للفعل الواحد عللُ باعثة فإن الرّسول صلى الله عليه وسلم بُعث للنّاس كافة، كما قال تعالى

السابقالتالي
2