الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ }

والمقصودُ: بيان عُيُوب بني إسرائيل، وشدَّة تَمَرُّدهم عن الوفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وهذا مُتعلِّقٌ بأوَّلِ السُّورة، وهو قولُه تعالى:أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [المائدة: 1].

قوله تعالى: { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ }: قد تقدَّم الكلامُ [الآية 20 من البقرة] على " كُلَّمَا " مشبَعاً، فأغْنَى عن إعادته، وقال الزمخشريُّ: " كُلَّمَا جاءَهُمْ رسولٌ " جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةٌ لـ " رُسُلاً " ، والراجعٌ محذوفٌ، أي: " رسولٌ منهُمْ " ، ثم قال: " فإنْ قلتَ: أينَ جوابُ الشرط، فإنَّ قوله: { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وفرِيقاً يقتُلُونَ } ناب عن الجواب؛ لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقَيْن؛ ولأنه لا يحسُن أن تقول: " إنْ أكْرَمْتَ أخِي، أخَاك أكْرَمْتُ "؟ قلتُ: هو محذوفٌ؛ يَدُلُّ عليه قوله: { فَرِيقاً كَذَّبُواْ، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ، كأنه قيل: كلما جاءهم رسولٌ، ناصَبُوه، وقوله: " فَرِيقاً كَذَّبُوا " جوابٌ مستأنفٌ لقائلٍ يقول: كيف فعلُوا برسُلِهِمْ؟ " قال أبو حيان: " وليس " كُلَّمَا " شرطاً، بل " كُلَّ " منصوبٌ على الظرف و " مَا " مصدريةٌ ظرفيةٌ، ولم يجزم العربُ بـ " كُلَّمَا " أصلاً، ومع تسليم أن " كُلَّمَا " شرط؛ فلا يمتنع؛ لما ذكر، أمّا الأول؛ فلأنَّ المرادَ بـ " رَسُول " الجنسُ لا واحدٌ بعينه، فيصحُّ انقسامُه إلى فريقَيْن؛ نحو: " لا أصْحَبُكَ ما طَلَع نَجْمٌ " أي: جنس النجوم، وأما الثاني؛ فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه ". وهذا الذي منعه إنما منعه الفرَّاءُ وحدَه، وأما غيرُه، فأجاز ذلك، وهذا مع تسليم أنَّ " كُلَّمَا " شرط، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ، فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في " كُلَّمَا " تقول: " كُلَّمَا جِئْتَنِي أخَاكَ أكْرَمْتُ " ، قال شهاب الدين: هذا واضحٌ من أنها ليستْ شرطاً، وهذه العبارةُ تكثُرُ في عبارة الفقهاءِ دُونَ النُّحَاةِ، وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشريُّ، فإنه قال: " وَكَذَّبُوا " جواب " كُلَّمَا " و " فَرِيقاً " مفعول بـ " كَذَّبُوا " ، و " فَرِيقاً " منصوب بـ " يَقْتُلُونَ " ، وإنما قدَّمَ مفعول " يَقْتُلُونَ " لتواخي رؤوس الآي، وقدَّم مفعولَ " كَذَّبُوا " مناسبةً لما بعده.

قال الزمخشريُّ: " فإنْ قلت: لِمَ جِيءَ بأحد الفعلَيْن ماضياً، وبالآخر مضارعاً؟ قلتُ: جِيء بـ " يَقْتُلُونَ " على حكايةِ الحالِ الماضية؛ استفظاعاً للقتلِ، واستحضاراً لتلْكَ الحالِ الشنيعةِ؛ للتعجُّبِ منها ". انتهى، وقد يقال: فلِمَ لا حُكِيَتْ حالُ التكْذيبِ أيضاً، فيُجَاءُ بالفعْلِ مضارعاً لذلك؟ ويجَابُ بأنَّ الاستفظاع في القتلِ وشناعَتِهِ أكثرُ من فظاعةِ التكذيبِ، وأيضاً؛ فإنه لمَّا جيء به مضارعاً ناسب رؤوس الآي.