الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { أَلاَّ تَكُونَ }: قرأ البصري والأَخَوان برفع النون، والباقون بنصبها. فَمَنْ رفع فـ " أَنْ " عنده مخففةٌ من الثقيلة، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ تقديرُه: أنه، و " لا " نافية، و " تكون " تامة، و " فتنةٌ " فاعلها، والجملةُ خبر " أن " وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن، وعلى هذا فـ " حَسِب " هنا لليقين لا للشكِّ، ومن مجيئِها لليقين قولُ الشاعر:
1780- حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ   رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلاً
أي: تيقَّنْتُ لأنه لا يلِيقُ الشكُّ بذك، وإنما اضطرِرْنا إلى جَعْلِها في الآية الكريمة بمعنى اليقين لأنَّ " أَنْ " المخففةَ لا تقع إلا بعد يقين، فأمَّا قوله:
1781- أرجو وآمُل أَنْ تدنُو مودتُها   وما إخالُ لدينا منكِ تنويلُ
فظاهرُه أنها مخففةٌ لعدم إعمالها وقد وقعت بعد " أرجو " و " آمل " وليسا بيقينٍ. والجوابُ من وجهين، أحدُهما: أنَّ " أَنْ " ناصبة، وإنما أُهْمِلَتْ حملاً على " ما " المصدرية، ويَدُلُّ على ذلك انها على ذلك أنها لو كانَتْ مخففةً لفُصِل بينها وبين الجملةِ الفعليةِ بما سنذكره، ويكون هذا مثلَ قولِ الله تعالى:لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233]، وكقوله:
1782- يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما   وحيثما كنتما لُقِّيتُما رَشَدا
أَنْ تَحْمِلا حاجةً لي خَفَّ مَحْمَلُها   تستوجبا نعمةً عندي بها ويَدا
أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويحكما   مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحدا
فقوله: " أَنْ تقرآن " بدلٌ من " حاجة " وقد أَهْمل " أن " ومثلُه قوله:
1783- إني زعيمٌ يا نُوَيْـ   ـقَةُ إن نجوْتِ من الرَّزاحِ
ونجوتِ من وَصَبِ العدو   و[من الغدو] إلى الرَّواحِ
أَنْ تهبطين بلادَ قَوْ   مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ
وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات يلزم أحد شذوذين قد قيل باحتمال كل منهما: إمَّا إهمالُ " أَنْ " وإمَّا وقوع المخففة بعد غير علم، وعدمُ الفصل بينها وبين الجملة الفعلية.

والثاني من وجهي الجواب: أنَّ رجاءه وأملَه قَوِيا حتى قربا من اليقين فأجراهما مُجْراه في ذلك. وأما قول الشاعر:
1784- عَلِموا أَنْ يُؤَمَّلون فجادُوا   قبلَ أَنْ يُسْألوا بأعظمِ سُؤْلِ
فالظاهرُ أنها المخففة، وشَذَّ عدمُ الفصلِ، ويُحتمل أن تكونَ الناصبةَ شَذَّ وقوعُها بعد العلمِ وشَذَّ إهمالُها، ففي الأولِ شذوذٌ واحدٌ وهو عدم الفصلِ، وفي الثاني شذوذان: وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ، وإهمالُها حملاً على " ما " أختِها.

وجاء هنا على الواجبِ - عند بعضِهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين " أَنْ " الخفيفةِ وبين خبرِها إذا كان جملةً فعلية متصرفة غيرَ دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفيٌ كهذه الآية، / وإمَّا حرفُ تنفيس كقوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4 5