الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ }

إذن: فالمسائل لا تسير على هَوَى المخلوق، إنما على مرادات الخالق لأن الخالق سبحانه هو صانع هذا الكون، وكلُّ صانع يغَارُ على صَنْعته، وهذا مُشَاهد حتى في صنعة البشر، ولك أنْ تتصوّر ماذا يحدث لو أفسدتَ على صانعٍ ما صنعَه. وعدالة الأشياء أن تسير على وَفْق مرادات الصانع، لا هوى المصنوع لأن الأهواء تملكها الأغيار، فالإنسان لو سار في حركة حياته على وَفْق هواه لأخذ مَا ليس له، ولَقبل الرشوة، ومال إلى الفِسْق والانحراف لأنه في الظاهر يرى أنه منتفع بهذا ولا ينظر إلى العاقبة والمحصلة النهائية، لقد نظر إلى متعة زائلة موقوته، ونسي تبعة ثقيلة لن يقدر عليها فيما بعد. لذلك يقول الحق سبحانه: { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ.. } [المؤمنون: 71] ولك أن تقول: نعم، اتباع الأهواء يُفسِد الأرض، ويُفسِد حركة الحياة فيها، لكن كيف يُفسِد السماء؟ وهل لأحد قدرة عليها؟ ونقول: ألم يكُنْ من أمنيات هؤلاء:وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً.. } [الإسراء: 90-92]. إذن: من أهوائهم أنْ تتهدّم السماء، ولو حتى على رؤوسهم، وأيّ فساد بعد هذا، وهكذا لو اتبعتَ أهواءهم لفسدَتْ السماوات والأرض، ليس هذا وفقط بل { وَمَن فِيهِنَّ.. } [المؤمنون: 71] حيث سيتعدّى فسادهم ليشمل كل ما في الوجود. لذلك يقيد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأهواء في قوله: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " لأنه صلى الله عليه وسلم:وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } [النجم: 3-4]. وقد توقف بعض المستشرقين مُعترِضاً على هذه الآيةوَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [النجم: 3] يقولون: يعني كلامه كله صحيح، فلماذا يُعدِّل له ربه بعض الأحكام؟ ومعنى ذلك أن الحكم المعدّل حين نطق به كان ينطق عن هوى. ولو فهم هؤلاء معنى الهوى ما كان منهم هذا الاعتراض، فالهوَى أن تعرف الحق، لكن هواك يصرفك عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ يعرف في هذه المسائل حُكْماً وانصرف عنه، إنما نطق وحكم على مقتضى ما فهم في أمر لم ينزل فيه من الله شيء، ثم نزل الحكم من الله ليُعدِّل اجتهاد رسوله. إذن: لم يكُنْ لرسول الله هَوَىً ينطق بمقتضاه، وفي تعديل الحق سبحانه لرسوله، وتبليغ الرسول لأمته بهذا التعديل أكبر دليل على صِدْقه صلى الله عليه وسلم وأمانته في البلاغ عن ربه، وإلاَّ فلم يكُنْ أحد ليعلم هذا التعديل، لو أخفاه رسول الله تعصّباً لنفسه، أو لدفْع الخطأ عنه.

السابقالتالي
2 3