الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: { مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ }: مَنْ مبتدأٌ، و " من أهل " خبره، قُدِّمَ عليه، و " مَنْ ": إما موصولة وإما نكرة، و " إِنْ تَأْمَنْهُ يُؤدِّه " هذه الجملة الشرطية: إمَّا صلةٌ فلا محلَّ لها، وإمَّا صفةٌ فمحلُّها الرفع.

وقرأَ أُبَيّ: " تِئْمَنْهُ " في الحرفين، ومَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا } [يوسف: 11] بكسر حرف المضارعة، وكذلك ابن مسعود والأشهب العقيلي، إلا أنهما أَبْدلا الهمزة ياء، وجَعَلَ ابن عطية ذلك لغةَ قريش، وغَلَّطه الشيخ. وقد تقدَّم لنا الكلامُ في كسرِ حرفِ المضارعة وشرطِ ذلك في سورة الفاتحة بكلامٍ مشبع فليُراجع ثمة.

والدينار أصله " دِنَّار " بنونين، فاسْتُثْقِلَ توالي مِثْلِين فأبدلوا أولهما حرفَ علة تخفيفاً لكثرة دَوْره في لسانهم، ويَدُلُّ على ذلك رَدُّه إلى النونين تكسيراً وتصغيراً في قولهِم: دَنانير ودُنَيْنِير، مثله: قيراط: أصله قِرَّاط بدليل قراريط وقُرَيْرِيط كما قالوا: تَظَنَّيْت وقَصَّيْت أظفاري، يريدون تَظَنَّنْت وقَصَّصت بثلاث نونات وثلاث صادات. والدينار مُعَرَّب، قالوا: ولم يختلف وزنه أصلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، كل قيراط ثلاث شُعيرات معتدلة، فالمجموعُ اثنتان وسبعون شُعَيْرة.

وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم: " يُؤَدِّهْ " بسكون الهاء في الحرفين، وقرأ قالون: يُؤَدِّه بكسر الهاء من دون صلة، والباقون بكسرها موصولة بياء، وعن هشام وجهان، أحدهما: كقالون، والآخر كالجماعة.

فأما قراءة أبي عمرو ومن ذُكِر معه فقد خَرَّجوها على أوجه أحسنها أنه سُكِّنت هاءُ الضمير إجراءً للوصل مُجْرى الوقف، وهو باب واسع مضى لك منه شيء نحو:يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ } [البقرة: 259]أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } [البقرة: 258] وسيمر بك منه أشياء إن شاء الله تعالى، وأنشد ابن مجاهد على ذلك قوله:
1336ـ وأشربُ الماءَ ما بي نحوه عطشٌ     إلا لأنَّ عيونَه سيلُ وادِيها
وأنشد الأخفش على ذلك أيضاً:
1337ـ فَظَلْتُ لدى البيتِ العتيقِ أُخيلُه     ومِطْواي مُشتاقان لَهُ أَرِقانِ
إلاَّ أنَّ هذا يَخُصُّه بعضُهم بضرورة الشعر، وليس كما قال لما سيأتي.

وقد طعن بعضهم على هذه القراءة فقال الزجاج: " هذا الإِسكان الذي رُوِي عن هؤلاء غلطٌ بَيِّنٌ، لأن الهاء لا ينبغي أن تُجْزم، وإذا لم تجزم فلا تسكن في الوصل، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فَغُلِط عليه كما غُلِطَ عليه فيبَارِئِكُمْ } [البقرة: 54]، وقد حَكَى عنه سيبويه ـ وهو ضابطٌ لمثل هذا ـ أنه كان يكسِر كسراً خفياً، يعني يكسر في " بارئكم " كسراً خفياً فظنَّه الراوي سكوناً ". قلت: وهذا الردُّ من الزجاج ليس بشيء لوجوه منها: أنه فَرَّ من السكون إلى الاختلاس/، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نَصَّ على أن الاختلاس أيضاً لا يجوز، بل جَعَلَ الإِسكان في الضرورة أحسنَ منه في الاختلاس قال: " ليَجري الوصل مُجرى الوقف إجراءً كاملاً " ، وَجَعَلَ قولَه " عيونَهْ سيلُ واديها " أحسنَ من قوله:

السابقالتالي
2 3 4