الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } * { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } * { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } * { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } * { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ }

{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } أي: منازل الكواكب ومراكزها البهيجة في السماء. أو بمساقطها ومغاربها، وهي أوقات غيبتها عن الحواس. أو بمساقطها وانتشارها يوم القيامة. و (لا) في (لا أقسم) إما مزيدة للتأكيد، وتقوية الكلام، وقد عهدت زيادتها في كلامهم، كما أوضحه في (فقه اللغة). وإما (لا أقسم) بتمامها صيغة من صيغ القسم، على ما ارتضاه بعض المحققين. { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أي: لما في القسم من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي: له كرم وشرف وقدر رفيع، لاشتماله على أمهات الحكم والأحكام، وما تنطبق عليه حاجات الأنام على الدوام { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } أي: محفوظ مصون، لا يتغير ولا يتبدل. أو محفوظ عن ترداد الأيدي عليه، كغيره من الكتب، بل هو كالدر المصون إلا عن أهله، كما قال: { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ }.

اعلم أن في الآية أقوالاً عديدة، مرجعها إلى أن المس مجاز أو حقيقة، وأن الضمير عائد للكتاب بمعنى الوحي المتلقَّي، أو المصحف، وأن { ٱلْمُطَهَّرُونَ } هم الملائكة، أو المتقون، أو المتطهرون من الأحداث والأخباث. وذلك لاتساع ألفاظها الكريمة، لما ذكر بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز. وهاك ملخص ذلك ولبابه:

فأما أكثر المفسرين، فعلى أنه عنى بالآية: الملائكة. فنفي مسّه كناية عن لازمه، وهو نفي الاطلاع عليه، وعلى ما فيه. والمراد بـ (المطهرين) حينئذ: إما جنس الملائكة، أو من نزل به وهو روح القدس. وطهارتهم: نقاء ذواتهم عن كدورات الأجسام، ودنس الهيولي، أو عن المخالفة والعصيان.

وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه: { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } كما قال:وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء: 210-212] انتهى. قال ابن كثير: وهذا القول قول جيد.

وقال الفرّاء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به. ومثله قول محمد بن الفضل: لا يقرؤه إلا الموحدين.

فنفي مسّه كناية عن ترك تقبّله، والاهتداء به، والعناية به، فإن مسّ الشيء سبب حب الملموس، وأثر الإقبال عليه، ورائد الانصياع له. والطهارة حينئذ: هي نظافة القلب من دنس الشرك والنفاق، والملكات الرديئة، والغرائز الفاسدة.

وقال آخرون: عنى بـ (المطهرين): المتطهرون من الجنابة والحدث. قالوا: ولفظ الآية خبر، ومعناها النهي، إشارة إلى أن تلك الصفة طبيعة من طبائعه، ولازم من لوازمه، لشرفه وعظم شأنه.

قالوا: والمراد بـ (الكتاب): المصحف، واحتجوا بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو ابن حزم، ألا يمس القرآن إلا طاهر.

السابقالتالي
2 3 4