الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }

استطعم: أي طلب الطعام، وطلَبُ الطعام هو أصدق أنواع السؤال، فلا يسأل الطعام إلا جائع محتاج، فلو سأل مالاً لقلنا: إنه يدخره، إنما الطعام لا يعترض عليه أحد، ومنْعُ الطعام عن سائله دليل بُخْل ولُؤْم متأصل في الطباع، وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مَرّا بها وطلبَا الطعام فمنعوهما. والمتأمل في الآية يجد أن أسلوب القرآن يُصوّر مدى بُخْل هؤلاء القوم ولُؤْمهم وسُوء طباعهم، فلم يقُلْ مثلاً: فأبوا أن يطعموهما، بل قال: { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا.. } [الكهف: 77]وفرْق بين الإطعام والضيافة، أَبَوْا الإطعام يعني منعوهما الطعام، لكن أَبَوْا أن يُضيّفوهما، يعني كل ما يمكن أنْ يُقدَّم للضيف حتى مجرد الإيواء والاستقبال، وهذا مُنْتَهى ما يمكن تصوُّره من لُؤمْ هؤلاء الناس. وتلحظ أيضاً تكرار كلمة { أَهْلَ } فلما قال: { أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } [الكهف: 77] فكان المقام للضمير فيقول: استطعموهم، لكنه قال: { ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا.. } [الكهف: 77] لأنهم حين دخلوا القرية: هل قابلوا كل أهلها، أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول؟ بالطبع قابلوا بعضهم، أما الاستطعام فكان لأهل القرية جميعاً، كأنهما مرّا على كل بيت في القرية وسألا أهلها جميعاً واحداً تلو الآخر دون جدوى، كأنهم مجمعون على البُخْل ولُؤْم الطباع. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ.. } [الكهف: 77]. أي: لم يلبثا بين هؤلاء اللئام حتى وَجَدا جداراً يريد أنْ ينقضّ، ونحن نعرف أن الإرادة لا تكون إلا للمفكر العاقل، فإنْ جاءت لغير العاقل فهي بمعنى: قَرُب. أي: جداراً قارب أنْ ينهار، لما نرى فيه من علامات كالتصدُّع والشُّروخ مثلاً. وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضَيِّقي الأفق، أما أصحاب الأفق الواسع الذين يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويُدققون في المسائل فلا مانع لديهم أنْ يكونَ للجدار إرادة على أساس أن لكل شيء في الكون حياةً تناسبه، ولله تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلام. ألم يَقُل الحق سبحانه:فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ.. } [الدخان: 29]. فإذا كانت السماء تبكي فقد تعدَّتْ مجرد الكلام، وأصبح لها أحاسيس ومشاعر، ولديها عواطف قد تسمو على عواطف البشر، فقوله:فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ.. } [الدخان: 29] دليل على أنها تبكي على فَقْد الصالحين. وقد سُئِل الإمام علي - رضي الله عنه - عن هذه المسألة فقال: " نعم، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السماء وموضع في الأرض، أما موضعه في الأرض فموضع مُصلاَّه، أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله ". وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكَوْن من حوله، فالكون ساجد لله مُسبِّح لله طائع لله يحب الطائعين وينبُو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم لذلك العرب تقول: نَبَا به المكان أي: كرهه لأنه غير منسجم معه، فالمكان طائع وهو عاصٍ، والمكان مُسبِّح وهو غافل.

السابقالتالي
2