الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً }

لما حَكَى عنهم أنَّهم يَخْشَون النَّاسَ عند فَرْضِ القِتَالِ بَكَّتهمُ هَهُنَا؛ فقال: { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ } أي: لا خلاص لكُم من المَوْت، والجِهَاد مَوْتٌ يستعقبه سَعَادة أخْرَوِيَّة، فإذا كان لا بُدَّ من المَوْتِ، فبأن يَقَع على وَجْهٍ يستَعْقِب السَّعَادة الأبَدِيَّة، أوْلى من ألاَّ يكُون كَذَلِكَ.

قوله: { أَيْنَمَا تَكُونُواْ }: " أين " اسْم شَرْط يجزم فِعْلَين، و " ما " زائدة على سَبِيل الجَوَازِ مؤكِّدة لها، و " أين " ظَرْف مَكَان، و " تكونوا " مَجْزومٌ بها، و " يدرككم ": جوابُه.

والجمهُور على جزمه؛ لأنه جواب الشرط، وطلحة بن سليمان: " يدركُكم " برفعه، فخرَّجه المُبَرِّد، على حَذْفِ الفَاءِ، أي: فيدرككم المَوْت.

ومثلُه قول الآخر: [الرجز]
1831- يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ   إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وهذا تَخْرِيج المُبَرِّد، وسيبويه يَزْعم أنه ليْس بجَوَابٍ، إنَّما هو دالٌّ على الجَوَاب والنِّيةُ به التقديمُ.

وفي البَيْت تَخْرِيجٌ آخر: وهو أنْ يكُون " يَصْرَعُ " المرفُوعُ خبراً لـ " إنك " ، والشَّرطُ معترِضٌ بينهما، وجَوَابُه ما دَلَّ عليه قوله: " إنك تصرع "؛ كقوله:وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } [البقرة: 70] وخَرَّجه الزَّمخشري على التوهُّم؛ فإنه قال: ويجُوز أن يُقال: حُمِل على ما يَقَع مَوْقعَ " أينما تَكُونوا " وهو " أينما كُنْتُم " كما حُمِل على ما يقع موقع " ليسوا مصلحين " وهو " ليسوا بمصلحين " فرفع كما رفع زهير " ولا ناعب ": [البسيط]
1832-................................   يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
وهو قولُ نحويّ سِيبيّ، يعني منسوب لسيبويه، فكأنه قال: " أينما كنتم " ، وفعلُ الشرط إذا كان ماضياً لفظاً جازَ في جوابه المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير: [البسيط]
1833- وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ   يَقُولُ...................................
وفي رَفْعِهِ الوَجْهَان المَذْكُوران عن سيبويه والمُبرِّد. ورَدَّ عليه أبو حَيّان: بأن العطفَ على التوَهُّم لا يَنْقَاس؛ ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حَذْفِ جواب الشَّرْط، ولا يُحْذَفُ إلاَّ إذا كان فِعْل الشَّرْط ماضياً، لو قُلْت: " أنت ظَالمٌ إنْ تفعل " لم يَجُز. وهذا - كَمَا رَأيتَ - مضارعٌ، وفي هذا الردِّ نَظَرٌ لا يَخْفَى.

" ولو كنتم " قالوا: هي بِمَعْنى: " إنْ " وجوابُها مَحْذُوف، أي: لأدْرَكَكُمْ، وذكر الزَّمَخْشري فيه قَوْلاً غَرِيباً عن عِنْدَ نَفْسِه، فقال: " ويجوزُ أن يَتَّصِل بقوله: { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي: لا تُنْقَصُون شيئاً مِمَّا كُتِب من آجَالِكُم أيْنَمَا تَكُونوا في مَلاَحمِ حُروبٍ أو غيرها، ثم ابتدأ بِقَوله: { يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } ، والوَقْفُ على هذا الوَجْه على { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } انتهى.

ورَدَّ عليه أبو حيَّان، فقال: هذا تَخْريجٌ ليس بِمُسْتَقيمٍ، لا من حيث المعنى ولا من حيث الصِّنَاعةِ النَّحوية:

أمَّا من حَيْثُ المعنى: فإنه لا يُناسِبُ أن يكون مُتَّصلاً بقوله: { لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }؛ لأنَّ انتفاءَ الظُّلْم ظاهِراً إنما هو في الآخرة؛ لقوله - تعالى -: { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ }.

السابقالتالي
2 3 4 5