الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }

فيه ثلاث مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } أي ٱدعه بأسمائه الحسنى، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة. وقيل: أي ٱقصد بعملك وجه ربك. وقال سهل: ٱقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ٱبتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك، وتقطعك عما سواه. وقيل: ٱذكر ٱسم ربك في وعده ووعيده لتَوَفَّر على طاعته وتعدل عن معصيته. وقال الكلبيّ: صلّ لربك أي بالنهار. قلت: وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار إذ هو قسيمه وقد قال الله تعالى:وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } [الفرقان: 62] على ما تقدّم. الثانية ـ قوله تعالى: { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } التبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل أي ٱنقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره. يقال: بتلت الشيء أي قطعته، ومنه قولهم. طلقها بَتّةً بَتلة، وهذه صدقة بتة بتلة أي بائنة منقطعة عن صاحبها أي قُطِع ملكه عنها بالكلية ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب متبتّل لانقطاعه عن الناس، وٱنفراده بالعبادة. قال:
تُضِيءُ الظَّلامَ بالعِشَاءِ كأَنَّهَا   مَنارةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ
وفي الحديث النهي عن التبتل، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات. وقيل: إن أصله عند العرب التفرد قاله ٱبن عرفة. والأوّل أقوى لما ذكرنا. ويقال: كيف قال: تَبْتِيلاً، ولم يقل تَبَتُّلاً؟ قيل له: لأن معنى تَبتَّل بَتَّل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة لحقّ الفواصل. الثالثة ـ قد مضي في «المائدة» في تفسير قوله تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 87] كراهة لمن تبتَّل وٱنقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية. قال ٱبن العربيّ: وأما اليوم وقد مَرِجت عهودُ الناس، وخفّت أماناتهم، وٱستولى الحرام على الحُطام، فالعزلة خير من الخُلْطة، والعُزْبة أفضل من التأهُّل، ولكن معنى الآية: ٱنقطِعْ عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله، وكذلك قال مجاهد: معناه: أخلص له العبادة، ولم يرد التبّتل، فصار التبتل مأموراً به في القرآن، منهيّاً عنه في السنة، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي، فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبيِّن للناس ما نزل إليهم فالتبتّل المأمور به: الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة كما قال تعالى:وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البيّنة: 5] والتبتُّل المنهيّ عنه: هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خيرُ مال المسلم غَنَماً يتبع بها شَعف الجبال ومواقع القَطْر، يفرّ بدينه من الفتن.