الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

{ قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ } ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم. { فَإِنَّهُ مُلَـٰقِيكُمْ } البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والجملة خبر { إِن } والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول، فإن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، فلا يقال: إن الفاء إنما تدخل الخبر / إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط، والمتضمن له الموصول وليس بمبتدأ، ودخولها في مثل ذلك ليس بلازم كدخولها في الجواب الحقيقي، وإنما يكون لنكتة تليق بالمقام وهي هٰهنا المبالغة في عدم الفوت، وذلك أن الفرار من الشيء في مجرى العادة سبب الفوت عليه فجىء بالفاء لإفادة أن الفرار سبب الملاقاة مبالغة فيما ذكر وتعكيساً للحال. وقيل: ما في حيزها جواب من حيث المعنى على معنى الإعلام فتفيد أن الفرار المظنون سبباً للنجاة سبب للإعلام بملاقاته كما في قوله تعالى:وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل: 53] وهو وجه ضعيف فيما نحن فيه لا مبالغة فيه من حيث المعنى. ومنع قوم منهم الفراء دخول الفاء في نحو هذا، وقالوا: هي هٰهنا زائدة، وجوز أن يكون الموصول خبر { إِن } والفاء عاطفة كأنه قيل: إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه فيلاقيكم.

وقرأ زيد بن علي ـ إنه ملاقيكم ـ بدون فاء، وخرج على أن الخبر هو الموصول وهذه الجملة مستأنفة أو هي الخبر والموصول صفة كما في قراءة الجمهور، وجوز أن يكون الخبر { مُلَـٰقِيكُمْ } و ـ إنه ـ توكيداً لإن الموت، وذلك أنه لما طال الكلام أكد الحرف مصحوباً بضمير الاسم الذي لإن، وقرأ ابن مسعود ـ تفرون منه ملاقيكم ـ بدون الفاء ولا ـ إنه ـ وهي ظاهرة.

{ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ } الذي لا يخفى عليه خافية. { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها.

واستشعر غير واحد من الآية ذم الفرار من الطاعون، والكلام في ذلك طويل، فمنهم من حرمه كابن خزيمة فإنه ترجم في «صحيحه»: باب الفرار من الطاعون من الكبائر وأن الله تعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه، واستدل بحديث عائشة " الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف " رواه الإمام أحمد والطبراني وابن عدي وغيرهم، وسنده حسن. وذكر التاج السبكي أن الأكثر على تحريمه، ومنهم من قال بكراهته كالإمام مالك، ونقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج عن الأرض التي يقع بها عن جماعة من الصحابة منهم أبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، وعن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق، وروى الإمام أحمد والطبراني أن عمرو بن العاص قال في الطاعون في آخر خطبته: إن هذا رجز مثل السيل من تنكبه أخطأه ومثل النار من تنكبها أخطأها ومن أقام أحرقته، وفي لفظ إن هذا الطاعون رجس فتفرقوا منه في الشعاب وهذه الأودية فتفرقوا فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فلم ينكره ولم يكرهه، وعن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدث إلى أبـي موسى الأشعري وهو في داره بالكوفة فقال لنا وقد وقع الطاعون: لا عليكم أن تنزحوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم حتى يرفع هذا الوباء فإني سأخبركم بما يكره من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه فإذا لم يظن هذا فلا عليه أن يخرج ويتنزه عنه.

السابقالتالي
2 3