الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ }

قوله تعالى: { ٱسْتَيْأَسُواْ }: استفعل هنا بمعنى فَعِل المجرد يقال: يَئِس واستيئس بمعنىً، نحو عَجِب واستعجب، وسَخِر واستخسر. وقال الزمخشري: " وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مَرَّ في " استعصم ".

وقرأ البزي عن ابن كثير بخلافٍ عنه " اسْتَاْيَسوا " بألفٍ بعد التاء ثم ياء، وكذلك في هذه السورة: " لا تايَسوا " ، إنه لا يايَس (إذا اسْتايَسَ الرسلُ)، وفي الرعد: (أفلم يايَسِ الذين) الخلافُ واحد. فأمَّا قراءةُ العامة فهي الأصل إذ يُقال: يَئِس، فالفاء ياء، والعين همزة، وفيه لغةٌ أخرى وهي القلبُ بتقديم العين على الفاء فيقال: أَيِس، ويدلُّ على ذلك شيئان، أحدُهما: المصدرُ الذي هو اليَأْس. والثاني: أنه لو لم يكنْ مقلوباً لَلَزِم قَلْبُ الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولكنْ مَنَعَ من ذلك كونُ الياء في موضعٍ لا تُعَلَّ فيه ما وقعَتْ موقعَه، وقراءةُ ابن كثير من هذا، ولمَّا قَلَبَ الكلمةَ أَبْدَلَ مِن الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة إذ صارَتْ كهمزة رَأْس وكأس،/ وإنْ لم يكنْ مِنْ أصله قَلْبُ الهمزة الساكنة حرفَ علة، وهذا كما تقدم أنه يقرأ " القرآن " بالألف، وأنه يُحْتمل أنْ يكون نَقَل حركة الهمزة وإن لم يكنْ من أصلِه النقلُ.

وقال أبو شامة ـ بعد أن ذكر هذه الكلماتِ الخمسَ التي وقع فيها الخلافُ ـ: " وكذلك رُسِمَتْ في المصحف " يعني كما قرأها البزي، يعني بألفٍ مكان الياء وبياء مكان الهمزة. وقال أبو عبد اللَّه: " واختلفَتْ هذه الكلمات في الرسم فَرُسِمَ " يابَس " " ولا تايَسُوا " بالألف، ورُسِم الباقي بغير ألف " قلت: وهذا هو الصوابُ، وكأنها غَفْلَةٌ حَصَلَتْ من أبي شامة رحمه اللَّه.

قوله: { نَجِيَّاً } حال مِنْ فاعل " خَلَصوا " أي: اعتزلوا في هذه الحالِ، وإنما أُفْرِدَت الحالُ وصاحبُها جَمْعٌ: إمَّا لأنَّ النَّجِيَّ فَعِيل بمعنى مُفاعِل كالعشير والخليط بمعنى المُخالطِ والمُعاشِر، كقوله:وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [مريم: 52] أي: مُناجِياً، وهذا في الاستعمال يُفْرَدُ مطلقاً، يقال: هم خليطُكَ وعَشيرُكَ أي: مُخالِطوك ومُعاشِروك، وإمَّا لأنَّه صفةٌ على فَعِيل بمنزلة صَديق، وصديق وبابُه يُوحَّدُ لأنه بزِنَةِ المصادر كالصَّهيل والوَجيب والذَّمِيل، وإمَّا لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل: النجوىٰ بمعناه، قال تعالىٰ:وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [الإسراء: 47]، وحينئذ يكون فيه التأويلاتُ المذكورةُ في " رجل عَدْل " وبابه، ويُجمع على " أَنْجيَة " ، وكان مِنْ حَقِّه إذا جُعِل وصفاً أن يُجْمع على أفْعِلاء كغَنِيّ وأَغْنِياء وشَقِيّ وأَشْقِياء. ومِنْ مجيئه على أَنْجية قولُ الشاعر:
2816 ـ إنِّي إذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ   
وقول الآخر ـ وهو لبيد ـ:
2817 ـ وشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الأَفَاقةِ عالياً   كَعْبي وأَرْدَافُ المُلوكِ شُهودُ

السابقالتالي
2 3 4